فن التامل
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
فن التامل
مقدمة
هل تفكرت يوماً في حقيقة وجودك، كيف حملتك أمك ثم ولدتك، فجئت الى هذا العالم ولم تكن من قبل شيئاً؟
هل تأملت يوماً كيف تنبت تلك الأزهار المزروعة في أحواض غرفة الجلوس من قلب تراب أسود فاحم موحل بألوان زاهية وشذىً عطر؟
هل شغلك انزعاجك من طيران البعوض حولك عن التفكر كيف انها تحرك أجنحتها بسرعة فائقة تجعلك غير قادر على رؤيتها؟
هل تفكّرت يوماً بأن قشور الفاكهة المهملة هي في حقيقتها أغلفة حافظة عالية الجودة، وبأن هذه الفاكهة - كالموز والبطيخ والبرتقال مثلاً- موضبة في داخلها بطريقة تحفظ طعمها وشذاها؟
هل تدبّرت يوماً كيف يمضي العمر حثيثاً، فتذكرت أنك سوف تشيخ وتصبح ضعيفاً وتفقد جمالك وصحتك وقوتك؟
هل فكرت في ذلك اليوم الذي سوف يرسل الله فيه ملائكة الموت لترحل معهم عن هذا العالم؟
هل تساءلت يوماً لماذا يتعلق الناس بدنيا فانية فيما هم بحاجة ماسة الى المجاهدة من أجل الفوز بالآخرة؟
ان الانسان هو المخلوق الذي أنعم الله عليه بملكة التفكير، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يستخدمون هذه الملكة المهمة كما يجب، حتى أن بعض الناس يكاد لا يتفكر أبداً!..
في الحقيقة كل انسان يمتلك قدرة على التفكر هو نفسه ليس على دراية بمداها، وما ان يبدأ الانسان باستكشاف قدرته هذه واستخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل. وهذا الأمر في متناول أي شخص، وكلما استغرق الانسان في تأمل الحقائق، كلما تعززت قدرته على التفكر. ولا يحتاج الانسان في حياته سوى هذا التفكر الملي والمجاهدة الدؤوبة من بعده..
إن الهدف من هذا الكتاب هو دعوة الناس الى" التفكير كما ينبغي"، وإبراز الوسائل التي تساعدهم على ذلك. فالانسان الذي لا يتفكر يبقى بعيداً كليّاً عن إدراك الحقائق ويعيش حياةً قوامها الإثم وخداع الذات، وبالتالي فإنه لن يتوصل الى مراد الله من خلق الكون، ولن يدرك سبب وجوده على الأرض.. فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لسبب، وهذه حقيقة ذكرها عز وجل في القرآن الكريم بقوله: ?وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون? الدخان: ]38-39[. وقوله:?أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم الينا لا ترجعون?] المؤمنون: 115[
اذاً على كل انسان أن يتفكر في الغاية من خلقه لأن ذلك له علاقة مباشرة به أولاً، وبكل ما يراه حوله في الكون وكل ما يعرض له في حياته تالياً. ان الانسان الذي لا يتفكر، لا يدرك الحقائق الا بعد الموت حين يقف بين يدي ربه ليلقى حسابه، وحينها يكون الأوان قد فات. والله تعالى يذكر في محكم كتابه إن كل الناس سوف يتفكرون عندما يعاينون الحقيقة في يوم الحساب ?وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي? ]الفجر: 23-24 [
لقد أعطانا الله جلّ وعلا الفرصة للتفكر واستخلاص العبر ورؤية الحقائق في هذه الحياة الدنيا لنفوز فوزاً عظيماً في الآخرة، فأنزل الكتب السماوية، وأرسل الرسل داعياً الناس عبرهم للتفكر في أنفسهم وفي خلق الكون من حولهم.?أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون? الروم:8
التفكّر العميق
معظم الناس يظن أن "التفكر العميق" يقتضي من الانسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالناس ثم ينسحب الى غرفة خالية ويضع رأسه بين يديه و... إنهم يصنعون من التفكر العميق قضية صعبة جداً، تجعلهم يخلصون الى القول بأن الأمر سمة خاصة بالفلاسفة فقط.. مع أن القضية أبسط من ذلك بكثير، فكما ذكرنا في المقدمة فإن الله تعالى يدعو جميع عباده ليتفكروا ويتدبروا خاصة في آيات القرآن الكريم الذي أنزله الله لهذا الغرض. يقول جل وعلا:? كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب? ]ص:29 [، ويمتدح الله تعالى عباده الذين يقودهم تدبّرهم وتفكّرهم الى إدراك الحقيقة وبالتالي الى مخافته سبحانه. فالمهم في الأمر كله اذاً أن يستطيع الانسان تطوير ملكة التفكر عنده وتعميقها أكثر فأكثر.
ان الانسان الذي لا يبذل جهده في التفكر والتدبر والتذكر يعيش في حالة دائمة من الغفلة، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتفكرون، بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل مع عدم النسيان والانغماس في الشهوات والوقوع في الاثم والاستخفاف والاهمال، هي نتيجة من نتائج تجاهلهم وتناسيهم للغاية من خلقهم ولكل الحقائق التي يعلمهم اياها الدين، وهذا الأمر عظيم وخطير ومؤداه في النهاية الى نار جهنم؛ لذلك حذرنا القرآن الكريم أن نكون من الغافلين، فقال تعالى:?واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين?] الأعراف:205 [وقال:?وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون? ]مريم:39 [.
ويبين الله تعالى زيغ الذين يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم اتباعاً أعمى دون أن يفكروا بما يحمله التقليد من ضلال، ولو نوقشوا في أمرهم لأجابوا فوراً بأنهم مؤمنون بالله ملتزمون بتعاليمه، لكن بما انهم لم يعقلوا فيتفكروا ويتدبروا ويتّعظوا فإن ايمانهم هذا لم يؤدّ بهم الى الصلاح وبالتالي الى مخافة الله الحقة.ان عقلية هؤلاء البشر تظهر بوضوح من خلال الآيات التالية:?قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنّى تسحرون? ]المؤمنون: 84-90[
التفكر يبطل السحر عن الناس
في الآيات السابقة يسائل الله تعالى الناس?قل فأنّى تسحرون? تسحرون في الآية الكريمة تعني حالة من الجمود العقلي تسيطر بشكل كامل على بعض الناس، فيغشى بصر من يصاب بها ويتصرف وكأنه لا يرى الحقائق أمام عينيه، وتضعف قدرته على التمييز والحكم على الأمور، ويصبح عير قادر على ادراك الحقائق المبسطة، كما يغفل عن ما يدور حوله من أمور غير اعتيادية وتخفى عنه دقائق الأحداث. هذا الجمود العقلي هو الذي أدى الى أن يعيش البشر منذ آلاف السنين حياة الغفلة بعيدين كلياً عن التفكر والتدبر والاعتبار. ويمكن لهذا المثال الذي سنذكره الآن أن يوضح لنا تأثير هذا السحر الذي حل بشكل جماعي على الأمم:
كلنا يعرف أن هناك طبقة أرضية تسمى "الصهارة" تحتوي مواد مذابة على درجة عالية جداً من الغليان تكمن مباشرة تحت القشرة الأرضية؛ وبما أن القشرة الأرضية رقيقة جداً ويمكن مقارنة سماكتها بالنسبة الى الكرة الأرضية ككل بسماكة قشرة التفاحة بالنسبة الى التفاحة كلها، فإننا قريبون جداً من الانفجار الذي قد يحدث لهذه الطبقة، فهو تقريباً تحت أقدامنا، ومع ذلك فمعظم الناس لا يتدبرون هذا الأمر، تماماً كما ان أهلهم وإخوانهم وأقاربهم وأصدقاءهم، وجميع وسائل الاعلام ومنتجي البرامج التلفزيونية، وأساتذة الجامعات، لا يتنبهون الى هذا الأمر. ولكن لو افترضنا أن شخصاً مصاباً بفقدان الذاكرة الكلي، يحاول إعادة بناء ذاكرته والاستعلام عن محيطه عبر طرح الاسئلة على الناس من حوله، فمن المفترض أن أول سؤال سوف يتبادر الى ذهنه، أين أنا؟ ماذا لو قيل له انه يقف على عالم من النار الملتهبة، وأن هذا اللهب يمكن أن يتفجر على سطح الأرض فيما لو حدثت أية هزة أرضية أو ثورة بركانية.
ولو افترضنا أن نفس الشخص أخبر بأن هذا العالم الذي يعيش فيه مجرد كوكب يسبح في فجوة مظلمة مترامية الأطراف تسمى الفضاء، وهذا الفضاء يختزن هو الآخر طبقة ملتهبة أعظم خطراً من تلك الكامنة تحت سطح الأرض، تتحرك فيها -على سبيل المثال- آلاف الأطنان من النيازك الحارقة بحرية تامة وليس هناك ما يمنعها أن تحيد عن مسارها وتصطدم بالأرض، بتأثير جاذبي من كوكب آخر -مثلاً- أو لأي سبب آخر.
إزاء كل هذه الحقائق لن يستطيع هذا الشخص أن ينسى خطورة الوضع الذي يعيش فيه، ولسوف يبدأ بالتساؤل: كيف يمكن للناس أن يعيشوا في هذا المحيط، مع كل ما يكتنفه من مخاطر، ويتمسكوا به ويعضّواعليه بالنواجذ؟! لكنه سوف يدرك فيما بعد ان هناك نظاماً متكاملاً قد أخذ حيّزه من الوجود. فرغم الخطر الكامن داخل الكوكب الذي يعيش فيه، هناك توازن دقيق يمنع هذا الخطر من إلحاق الضرر بالناس، إلا في ظروف استثنائية، وهذا الادراك سيجعله يفهم أن الارض ومن عليها من مخلوقات انما تستمد وجودها وتعيش بأمان بإرادة الله تعالى وحده الذي أوجد هذا النظام المتكامل للحياة.
هذا واحد من ملايين، بل بلايين، الامثلة التي يجب أن يتفكر فيها البشر. ولعل إعطاء مثال آخر يساعدنا على أن ندرك كم تؤثر الغفلة على قدرة الناس على التفكر وتحد من قدراتهم العقلية.
يعلم الناس أن الحياة الدنيا فانية وأن العمر يمضي حثيثاُ ومع ذلك فإنهم يتصرفون وكأنهم لن يبارحوا هذا العالم وأنهم مخلدون. وهذا في الحقيقة نوع من السحر تعاقبت على حمله الأجيال، وله تأثير بالغ عليهم لدرجة أنه عندما يتحدث شخص ما عن الموت فإن الناس يقفلون الموضوع مباشرة لأنهم يخافون أن يبطل هذا الحديث السحر عنهم ويضعهم في مواجهة الحقائق.
أولئك الناس الذين بددوا حياتهم كلها في شراء سيارة ومنزل جميل وآخر لقضاء العطلة الصيفية والبحث عن مدارس ذات مستوى ليرسلوا أبناءهم اليها، تناسوا أنهم سوف يموتون في يوم من الأيام ويخلّفوا وراءهم البيوت والسيارات والأولاد، وتركوا التفكير بما يجب أن يقدموا للحياة الحقيقية بعد الموت. ان الموت قادم لا محالة، وكل الناس سوف يموتون حتماً عاجلاً أم آجلا ، واحداً تلو الآخر، سواء صدقوا ذلك أم لا، وبعد ذلك تبدأ الحياة الأبدية لكل منا، إما الى الجنة أو الى النار، فالأمر يعتمد على ما أسلف الانسان في هذه الحياة القصيرة. ومع أن هذه الحقائق واضحة كعين الشمس، فإن السبب الوحيد الذي يجعل الناس يتعاملون مع الموت وكأنه غير موجود، هو ذلك السحر الذي سيطر عليهم لأنهم أعرضوا عن التفكر.
ان الذين لا يؤدي بهم التفكر الى إنقاذ أنفسهم من هذا السحر وبالتالي من حياة الغفلة سوف يفهمون الحقائق عندما يرونها رأي العين بعد الموت، قال تعالى:? لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد? ]ق:22[
فكما يقول الله تعالى في الآية الكريمة فإن البصر الذي تكتنفه الغشاوة في الحياة الدنيا بسبب عدم التفكر، ولكنه سيكون حاداً عندما يحاسب الانسان في الآخرة بعد الموت.
وجدير بالذكر في هذا المقام أن الناس هم الذين يفرضون على أنفسهم هذا النوع من السحر بملء إرادتهم لأنهم يظنون انهم بهذه الطريقة سوف يعيشون حياة رغد واسترخاء. لكن من السهل جداً اتخاذ قرارالتخلص من الجمود العقلي وعيش الحياة بوعي وإدراك، فلقد قدم الله تعالى الحلول للناس، فالذين يتفكرون يستطيعون بكل سهولة أن يبطلوا عن أنفسهم هذا السحر فيما هم على قيد الحياة، ويفهموا كل ما يدور حولهم من الأحداث والغاية منها ودقائق معانيها، والحكمة مما يقضيه الله من أمور في كل لحظة.
التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان
ان التفكر والتدبر لا يستدعيان مكاناً أو زماناً أو شروطاً محددة، فاانسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه الى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون أو حتى خلال تناول الطعام.
فخلال قيادة السيارة مثلاً يمكن يمكن رؤية مئات الأشخاص في الشوارع، وعندما ينظر الانسان الى هؤلاء الأشخاص يمكنه أن يتفكر في أمور شتى، فلربما انصرف ذهنه الى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء الناس، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الاختلاف في المظهر بين الناس الذين لديهم نفس الأعضاء من العيون الى الحواجب الى الرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والأنوف.. ولو استغرق الانسان في التفكير أكثر لتذكر أن الله قد خلق الالوف من البشر عبر بلايين السنين وكل واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك الا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والذي يراقب كل هؤلاء الناس يحثّون الخطى؛ تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الأولى يبدو أن كل واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص وأمنياته ومشاريعه وذوقه وأسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه.. ولكن هذه الخلافات بين البشر ليست أساسية، فبشكل عام كل انسان يولد ويكبر ويتعلم ثم يتزوج وينجب الأولاد ويزوجهم فيصبح جدّاً أو جدة ثم يتوفى في النهاية.. من هذه الناحية ليس هناك اختلاف كبيرفي حياة الناس، سواء كانوا يعيشون في حي في استانبول أو في مدينة في المكسيك، فإن ذلك لن يغير شيئاً ، فكل هؤلاء الناس سوف يموتون وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة. ومن يدرك هذه الحقائق لا بد أن يسأل نفسه: بما أننا في يوم من الأيام سوف نموت جميعاً لماذا يتصرف الناس وكأننا لن نبارح هذا العالم؟ ولماذا يتصرف من أدرك حتمية موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟!
وفي حين أن غالبية الناس لا تتفكر بهذه الأمور فإن من توصل الى التفكر بها سيخلص الى نتائج حاسمة. فلو سئل معظم الناس بشكل مفاجىء: بماذا تفكرون في هذه اللحظة؟ سوف يظهر بوضوح انهم يفكرون بأمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع. وعلى كل حال، فإن كل انسان يمكن أن يتفكر بحكمة في أمور مهمة وذات قيمة ومعنى ويتدبرها ويخلص الى نتائج من وراء ذلك. ويعلمنا القرآن الكريم أن من صفات المؤمنين أنهم يتفكرون ويتدبرون ليخلصوا الى النتائج التي تعود بالنفع عليهم.?إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا م اخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار? آل عمران: 190-191 فكما تخبرنا الآيتان الكريمتان فإن تفكر المؤمنين مكّنهم من رؤية جانب الإعجاز في الخلق وتمجيد حكمة الله وعلمه وقدرته.
إخلاص النية لله عند التفكر
من أجل أن يعود التفكر بالنفع على الانسان ويهديه الى جادة الحق، يجب عليه أن يفكر دائماً بطريقة إيجابية. هناك فرق كبير بين من ينظر الى شخص حباه الله بحسن الهيئة من منظار عقدة النقص الناشئة عن عدم التكافؤ في المظهر الخارجي بينهما، فيشعر بالغيرة ويؤدي به تفكره الى ما لا يرضي الله، وبين من يسعى الى مرضاة الله فينظر الى هذا الشخص على أنه جمال من خلق الله، ويعتبر حسن هيئته برهاناً على كمال الله في خلقه، فيشعر بسعادة غامرة ويدعو الله أن يزيد هذا الانسان جمالاً في الآخرة، كما يدعو لنفسه أن يرزقه الله الجمال الأبدي في دار الخلود، ويفهم أن الانسان لا يمكن أن يكون كاملاً في الحياة الدنيا، لأن حياتنا هذه خلقت غير كاملة كجزء من ابتلائنا فيها، وبذلك كله يزيد توقه وتطلعه الى الفوز بالجنة. وهذا كله مثال واحد على الإخلاص في التفكر، ولسوف يعرض للإنسان الكثير من الأمثلة المشابهة في حياته، خاصة وأنه في امتحان دائم ليرى ان كان سيسلك سلوكاً حسناً ويفكر بأسلوب يرضي الله.
إن نجاح الانسان في امتحان التفكر، وكون التفكر سيعود عليه بالنفع في الآخرة يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره، ولذلك فإن من الضرورة بمكان أن يتفكر الانسان بصدق دائماً. قال تعالى:?هو الذي يريكم آياته وينزّل من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب? ]غافر:13[.
بماذا يتفكر الناس عادة؟
ذكرنا سابقاً أن الناس لا يتفكّرون ولا يطوّرون قدرتهم على التفكر، وبالإضافة الى ذلك يجب توضيح نقطة هامة. بالطبع هناك أسياء كثيرة تخطر على بال الانسان في كل لحظة من لحظات حياته، فبالكاد تمر دقيقة يكون عقل الانسان فبها خالياً، باستثناء ساعات النوم. لكن معظم هذه الأفكار عديم الفائدة ولا طائل تحته وغير ضروري؛ فهي لا تنفع في الآخرة ولا تؤدي الى أي مكان ولا تقدم أية منفعة.
فإذا حاول الانسان أن يتذكر بماذا فكر خلال النهار ثم سجّله ليراجعه في آخر النهار سيدرك كم أن معظم أفكاره لا جدوى لها، وحتى لو وجد بعضها نافعاً فمن الأرجح أن يكون مخطئاً في تقديره. فبشكل عام الأفكار التي تبدو صحيحة قد لا يكون لها أي نفع في الآخرة.
وتماماً كما يضيّع الناس أوقاتهم في حياتهم اليومية بمعالجة أمور تافهة، فإنهم كذلك يمضون يومهم في اللغو منجرفين في أفكار غير ذات جدوى. وفي قوله تعالى:?قد أفلح المؤمنون.. والذين هم عن اللغو معرضون? ]المؤمنون:3[ ينصح الله تعالى الناس أن يكونوا أقوياء العزيمة في اعراضهم هذا. وبالتأكيد فإن أمر الله هذا يصح أيضاً على أفكار الناس. هذا لأننا إذا لم نسيطر على أفكارنا بوعي فإنها سوف تظل تنساب في عقولنا بشكل متواصل، فيقفز الإنسان دون وعي من فكرة إلى أخرى. فمثلاً، خلال التفكير بالأشياء التي سوف يتسوّقها في طريقه إلى البيت يجد نفسه فجأة يفكّر بأشياء أخبره بها صديق قبل سنة أو سنتين: هذه الأفكار غير المضبوطة وغير النافعة قد تستمر دون اعتراض خلال النهار كله.
الا أن السيطرة على التفكير ممكنة. فكل منا يمتلك القدرة على التفكير بأشياء تفيده وتفيد إيمانه، وعقله، وتحسّن كياسته وإحاطته بالأمور.
وفي هذا الفصل سوف نذكر كل أنواع الأفكار التي يفكّر بها الغافلون بشكل عام. والغاية من ذكر هذه الموضوعات بالتفصيل ان يتنبّه الذين يقرأون هذا الكتاب فوراً عندما تمر أشياء مماثلة في أذهانهم - حين يكونون في طريقهم إلى العمل أو المدرسة أو حين يزاولون أعمالهم اليومية - فوراً إلى أنهم يفكّرون بأمور غير مجدية فيسيطروا على أفكارهم ويتفكّروا في أمور تعود عليهم بالنفع حقيقة.
مخاوف غير ذات نفع
عندما يفشل الإنسان في السيطرة على أفكاره وتوجيهها نحو البلوغ به إلى حسن الختام، فإنه قد يشعر بالتخوف من شرور مرتقبة أو يتعامل مع الأحداث التي لم تحصل وكأنها حصلت بالفعل، فيقوده ضلاله إلى الحزن والكرب والخوف والقلق.
فمن عنده شاب يدرس لامتحان جامعي، مثلاً، قد يخترع سيناريوهات لما قد يحصل فيما لو رسب ولده في الامتحان قبل أن تجري الامتحانات: "إذا رسب ابني في الامتحان، فإنه لن يستطيع أن يجد وظيفة جيدة في المستقبل يكسب منها ما يكفي من المال، ولن يكون قادراً على الزواج، ولو تزوج سيستطيع تحمل مصاريف حفل الزفاف؟.. إذا فشل في الإمتحان فإن كل ما صرف من مال على الفصول التحضيرية سوف يذهب هباء، وفوق هذا سوف نكون محتقرين في أعين الناس... ماذا لو نجح ابن صاحبي ورسب ابني..."
وسوء الفهم هذا سوف يستمر ويستمر، مع ان ابن هذا الشخص لم يخضع للامتحان بعد. وخلال حياته كلها لا يمكن للإنسان البعيد عن الدين أن يقاوم مثل هذه المخاوف التي لا ضرورة لها، وهذا بالتأكيد له سببه. ففي القرآن ذكر السبب الذي يجعل الناس غير قادرين على التحرر من هذا القلق هو أنهم يعيرون سمعاً لوساوس الشيطان، إذ يقول الشيطان?ولأضلنّهم ولأمنينّهم..? ]النساء:119 [ .
وكما يرى في الآية أعلاه فإن من يشغل نفسه بمخاوف لا جدوى منها، وينسى الله تعالى ولا يفكّر بصفاء، يكون دائماً عرضة لوساوس الشيطان. وبكلمات أخرى إذا كان الإنسان مخدوعاً بهذه الحياة الدنيا لا يستعمل قوة إرادته ويتصرف بوعي، وإذا سمح لنفسه بالانجراف بمجرى الأحداث فإنه يصبح تحت سيطرة الشيطان بشكل كامل. فإقلاق
ولذلك فإن التشاؤم وسوء الفهم والمخاوف المتحكمة في الذهن مثل "ماذا سأفعل إذا حصل كذا وكذا" سببها وساوس الشيطان.
والله سبحانه وتعالى يعلم الناس الطرق التي تقيهم من هذا الوضع. ففي القرآن ينصح الله الناس باللجوء إليه إذا نزغهم من الشيطان نزغ فيقول:"إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثم لا يقصرون? ]الأعراف 201 - 202[ .
وكما هو مذكور في الآية فإن من يتفكّر يدرك الصواب ومن لا يتفكّر يمضي إلى حيث يجره الشيطان. المهم ان نعرف أن هذه الأفكار لن تنفع الإنسان بل على العكس سوف تمنعه من التفكير بالحقيقة، والتفكر بأمور مهمة وبالتالي تطهير ذهنه من الأفكار غير المجدية. فلا يمكن للإنسان ان يتفكّر بطريقة صائبة إلا إذا حرر ذهنه من الأفكار التافهة. وبهذه الطريقة "يعرض عن اللغو" كما يأمر الله تعالى في القرآن.
ما هي الأسباب التي تمنع الناس من التفكر؟
هناك عوامل عديدة تمنع الناس من التفكر، مجموع هذه العوامل أو بعض منها، أو حتى واحد فقط قد يعيق تفكر الإنسان ويمنعه من ادراك الحقائق. لذلك يجب عليه أن يحدد العوامل التي تؤثر فيه سلباً ليتخلص منها، وإلا فإنه لن يستطيع أن يرى الوجه الحقيقي لهذه الحياة الدنيا، فيخسر خسراناً مبيناً في الآخرة.
والله سبحانه ينبئنا عن حال أولئك الذين تعوّدوا أن يفكروا بسطحية، فيقول تعالى?يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاىء ربهم لكافرون? ]الروم: 7-8[.
وفيما يلي بعض العوامل التي تمنع الناس من التفكر:
اعتقاد الناس أن ما تفعله الأكثرية بينهم هو الصحيح، من أهم الأسباب التي تؤدي الى الضلال. فالإنسان عادة يفضل قبول ما تعلمه من الناس من حوله على البحث عن الحقيقة عبر التفكر، ويرى أن الأشياء التي تبدو غريبة للوهلة الأولى، يعتبرها الناس عادية لدرجة أنهم لا يتنبهون اليها، لذلك فإنه بعد فترة يبدأ بالاعتياد عليها. مثال على ذلك: كثير من الناس حولنا لا يسلّم بأننا سنموت في يوم من الأيام، حتى انهم لا يسمحون لأحد بالتحدث عن هذا الموضوع كي لا يذكرهم بالموت. وعندما ينظر المرء حوله ويرى كيف يتصرف الناس فإنه يقول في نفسه: بما أن هذا حال كل الناس، لن يضيرني أن أتصرف بنفس الطريقة، فيعيش حياته دون أن يتذكر الموت أبداً، ولو أن الناس من حوله خافوا الله وجاهدوا في سبيل الفوز بالآخرة حق جهاد، لكان في أغلب الظن غيّر تصرفه.
مثال آخر على ذلك: تنقل الصحف والتلفزيونات يومياً مئات الأخبار عن الكوارث والظلم والاضطهاد وغياب العدالة، وعن الجرائم وحالات الانتحار، كما تغطي حوادث السرقة وتأتي على ذكر أحوال آلاف المعوزين من البشر؛ ومع ذلك فإن كثيراً من الناس يطوون صفحات الجريدة، ويطفئون جهاز التلفاز وهم بشعرون بسكينة داخلية، وبشكل عام فإن الناس لا يتساءلون لماذا هذا الكم الهائل من تلك الأنباء، وماذا يجب فعله إزاء هذا الواقع؟ وما سبل الوقاية التي يجب اتخاذها لمنع وقوع مثل هذه الأمور؟ وماذا يمكنهم أن يفعلوا إزاء هذه المعضلات؟ بل ان معظمهم ينحو باللائمة على غيره متبعاُ مبدأ: "هل يتوقف عليّ إنقاذ العالم؟"
التكاسل الذهنيِ
التكاسل هو العامل الذي يمنع أغلبية الناس عن التفكر، وبسبب التكاسل الذهني يقوم الناس بأعمالهم بالطريقة التي تعوّدوا أن يروها دائماً دون تغيير. ولإعطاء مثال من خضم حيااتنا اليومية، فإن ربات البيوت ينظفن بيوتهن بنفس الطريقة التي شاهدن والداتهن يقمن بها، وهنّ بشكل عام لا يتساءلن كيف يمكن إنجاز الأعمال بشكل أنظف وطريقة عملية أكثر، والأمر نفسه بالنسبة الى الرجال، فلو احتاج شيء ما الى إصلاح فإنهم يصلحونه بنفس الطريقة التي تعلموها منذ طفولتهم، ومعظمهم يرغب عن تطبيق أسلوب عملي جديد أكثر فاعلية. وأسلوب هذا النوع من الناس متشابه أيضاً، فالمحاسب مثلاً يتكلم بنفس الطريقة التي تكلم بها محاسب ما قابله في حياته.. والأمر كذلك بالنسبة الى الأطباء والمصرفيين ومندوبي المبيعات.. وغيرهم من الناس الذين تجمعهم طبقة اجتماعية معينة فتكون لهم طريقة معينة في التحدث ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير للبحث عن طرق أفضل وأحسن وأصوب، إنما يقلدون ما سمعوه فقط!
كما أن الحلول المبتكرة للمشاكل تعكس كسلهم الذهني. فمثلاً، حارس مبنى ما يعالج مشكلة النفايات فيه تماماً كما كان يفعل من كان قبله، وعمدة مدينة ما يحاول حل مشكلة زحمة المرور عبر مراجعة ما فعله من كان قبله. وفي حالات كثيرة عدم التفكير يجعل صاحب المشكلة غير قادر على إيجاد حل.
طبعاً الأمثلة المذكورة أعلاه هي أمور يعاني منها الناس في حياتهم اليومية، ولكن هناك قضية أهم من ذلك وأعمق بكثير لو أخفق الناس في التفكير فيها، فقد يؤدي بهم ذلك الى الخسران الأبدي المبين، والمقصود من هذا الكلام إخفاق المرء في التفكر في الغاية من وجوده في هذه الدنيا، وتجاهله لحقيقة أن الموت لا يمكن تفاديه، وأننا حتماً سنبعث بعد الموت. ففي القرآن يدعونا الله الى التفكر في هذه الحقائق فيقول جلّ وعلا:? أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون? ]هود: 21-24[ ويقول أيضاً:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون? ]النحل:17[.
كثرة التفكير مضرّة!
هناك قناعة سائدة في المجتمعات أن التفكير العميق مضر! فتجد الناس يحذر بعضهم بعضاًَ بالقول: " لا تفكر كثيراً، والا فقدت صوابك"! وهذه بالطبع ليست الا خرافة ابتدعها من نأوا بجانبهم عن الدين. ليس على الناس ان يتجنبوا التفكير ولكن عليهم أن يتجنبوا السلبية أو الانجراف في الوسوسة المبالغ فيها وسوء الفهم
ولأن أولئك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يتفكرون دون أن يلزموأ أنفسهم بالخير والصلاح، فيتفكرون، ولكن بطريقة سلبية، فإنهم يخرجون من تأملاتهم بخلاصات لا تعود عليهم بأي نفع. فمثلاً، هم يتفكرون في كون الحياة الدنيا مؤقتة، وفي حتمية الموت في يوم من الأيام، ولكن هذا الأمر يثير لديهم الكثير من التشاؤم، بعضهم يتشاءم لأنه يعلم أنه يمضي هذه الحياة المؤقتة في معصية الله، ويحضر نفسه لنهاية بائسة في الآخرة، وبعضهم الآخر يتشاءم لأنه يعتقد أن أثره سيتلاشى كلياً بعد الموت.
أما الشخص الحكيم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يخرج بنتائج مختلفة تماماً عندما يتدبر في حقيقة هذه الدنيا الفانية.. فقبل كل شيء إدراكه لكون الحياة مؤقته يدفعه الى المجاهدة بشدّة من أجل حياته الحقيقية الأبدية في الآخرة. وبما أنه يعرف أن هذه الحياة سوف تنتهي عاجلاً أم آجلاً، فإنه لا ينجرف في طلب شهوات ومتاع الحياة الدنيا، بل على العكس من ذلك، فإنه يعرض عنها الى أبعد الحدود.. لا شيء في هذه الدنيا الفانية يزعجه فهو دائماً راضً عمّا قسمه الله له من نعم وجمال، لأنه يعلّق آماله على الفوز بالحياة الأبدية المرضية. فقد خلق الله تعالى هذه الحياة الدنيا غير كاملة ليبتلي الناس، والمرء الذكي يفكر: إذا كان هذا العالم غير الكامل فيه هذا الكم من الجمال الذي يسعد الانسان، فلا بد أن جمال الجنة فاتن الى درجة تفوق الخيال، فتراه يأمل أن يعاين في الدار الآخرة منبع كل جمال يشاهده في هذه الدنيا. وهذه القناعات كلها لا تتأتى لديه إلا عبر التفكر العميق.
ولذلك فمن الخسارة بمكان قلق الانسان من ان يصيبه التشاؤم إذا ما وصل الى الحقيقة ، وبالتالي تفاديه التفكر، لأن الانسان الذي يفكر دائماً بإيجابية، ويعلل النفس بالرجاء بفضل إيمانه بالله، ما من أمر يقوده الى التشاؤم.
تفادي المسؤولية التي تترتب على التفكر
يظن معظم الناس أن بإمكانهم التملص من مختلف المسؤوليات عبر تفادي اللتفكر وتشغيل ذهنهم بقضايا معينة، وهم يحسبون أنهم إن فعلوا ذلك فسوف ينجحون بإبعاد أنفسهم عن كثير من الموضوعات. فواحدة من الطرق التي تخدع الناس تكمن في افتراضهم أن بإمكانهم التهرب من مسؤولياتهم تجاه ربهم عبر عدم التفكر، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الناس لا يتفكرون بالموت والبعث من بعده. أذا تفكر المرء أنه سيموت في يوم ما، وتذكر أن هناك حياة أبدية بعد الموت، فإنه بالضرورة سيجاهد بشدة لحياته بعد الموت.. لكن مع ذلك، ترى بعض النفس يخدع نفسه خداعاً عظيماً بافتراضه أنه تخلص من هذه المسؤولية عندما لا يتفكر في وجود الآخرة، فإذا لم يحرز الإنسان الحقيقة في هذه الحياة الدنيا فإنه سوف يفهمها عندما يدركه الموت الذي لا مهرب منه ?وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد? ]ق:19-20[ .
عدم التفكر بسبب الانجراف في تيارالحياة اليومية
غالبية الناس يقضون حياتهم كلها في" عجلة"، فعندما يصلون الى سن معينة يتوجب عليهم العمل والاعتناء بأنفسهم وبأسرهم. ويسمون ما يفعلونه"كفاحاً من أجل الحياة" ويشكون من عدم وجود وقت لديهم ليفعلوا أي شيء إذ عليهم أن يندفعوا في سبيل كفاحهم هذا. وفي غمرة "ضيق الوقت" يصبح التفكر من الأشياء التي لا يمكنهم تخصيص أي وقت لها. ولذلك فإنهم ينجرفون الى أي مكان يسحبهم اليه تيار الحياة اليومية. وبطريقة العيش هذه يفقدون الاحسلس بالأمور التي تجري حولهم.
وعلى كل حال لا يجب أن يكون هدف الانسن تبديد الوقت بالاستعجال من مكان الى آخر. فالمهم أن يكون الاناسن قادراً على رؤية الوجه الحقيقي لهذه الحياة واتخاذ أسلوب للعيش وفقه. ولا يجب أن تقتصر غايات الانسان على كسب المال، أو الذهاب الى العمل أو الدراسة في الجامعة أو شراء منزل.. فقد يحتاج الانسن باتأكيد الى القيام بهذه الأشياء، ولكن عليه عند القبام بها أن يضع نصب عينيه دائماً أن هدف وجوده هو أن يكون عبداً لله وأن يسعى لاكتساب مرضاته ورحمته ودخول جنته، وباقي الأعمال تنفع كوسائل تعين الانسان على الوصول الى غايته الحقيقية. أما اتخاذ هذه الوسائل كغايات حقيقية وأهداف محددة فإنه خداع كبير يضل به الشيطان الانسان.
ومن يعيش دون أن يتفكر قد يجعل من هذه الوسئل غايته الحقيقية بكل سهولة. ويمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك من حياتنا اليومية. فمما لا شك فيه أنه من الحسن أن يعمل وينتج أشياء ذات منفعة لمجتمعه. والمؤمن بالله ينجز مثل هذه الأعمال بحماس ويرجو الثواب من الله تعالى في الحياة بعد الموت. أما إذا قام إنسان بنفس العمل دون أن يذكر الله ولأساب دنيوية فقط مثل السعي وراءالمنصب أو تقدير الناس فإنه يرتكب خطأً، لأنه حوّل أمراً ما من وسيلة لكسب مرضاة الله الى غاية. وسوف يندم على فعلته عندما يواجه الحقائق في الآخرة. وفي الآية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى أولئك الذين ينغمسون في هذه التصرفات في الحياة الدنيا بما يلي:?كالذين كانوا من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذي من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون? ]التوبة:69[
لنظر الى كل شيء بعين العادة وبالتالي عدم رؤية أية حاجة للتفكر فيها
عندما يصادف الناس أموراً معينة للمرة الأولى قد يفهمون طبيعتها الاستثنائية مما قد يحفزهم على التحري أكثر عما يرونه. ويعد فترة تنشأ لديهم مقاومة اعتيادية لهذه الأشياء فلا تعود تؤثر بهم.
وبالتحديد فإن الأشياء والأحداث التي يلاقونها كل يوم تصبح عادية بالنسبة لهم.
فعلى سبيل المثال قد يتأثر من يدرس الطب تأثراً بالغاً عندما يرى جثة للمرة الأولى أو في المرة الأولى التي يموت فيها أحد مرضاه. مما يجعلهم يتأملون ملياً. ويمكن ان يكون السبب أنهم يواجهون انساناً بلا حياة أشبه بالبضاعة، كان منذ دقائق مليئاً بالحياة يضحك ويخطط ويتكلم ويستمتع وتلمع عيناه بالحياة.. وعندما توضع الجثة أمامهم للتشريح للمرة الأولى فإنهم يتفكرون في كل شيء في هذه الجثة, يتفكرون بأن الجسد يفنى بسرعة كبيرة, وأنه تفوح منه رائحة نتنة، والشعر الذي كان جميلاً فيهما مضى يصبح غير جميل ولا يود أحد لمسه.. وبعد ذلك يتفكرون في أن مكونات كل الأجسام هي نفسها وكل واحد منا سيلاقي نفس النهاية, وأنهم هم أيضاً سينتهون الى هذا الشكل.
ولكن بعد رؤية بضع جثث أو فقدان بضعة مرضى ينشأ لدى هؤلاء الناس مقاومة اعتيادية لأشياء محددة فيبدأون بالتعامل مع الجثث وحتى المرض وكأنهم أشياء.
وبالتأكيد هذا الوضع لا يصدق على الأطباء وحدهم, فغالبية الناس ينطبق عليها هذا الوضع في مناحي مختلفة من حياتهم. فمثلاً ينعم الله على انسان يعيش في ظروف صعبة برغد العيش فإنه يفهم ان كل ما يمتلكه رحمة له. فسريره أصبح أكثر، ولبيته منظر جميل, ويمكنه ان يشتري ما يريد ويمكنه أن يدفئ منزله في الشتاء كما يرغب، وبإمكانه التنقل بسهولة بسيارة.. وغيرها من النعم كلها التي قسمت لهذا الانسان، وبالنظر بوضعه السابق فإنه يبتهج بكل واحدة منها، ولكن من يمتلك هذه الأشياء منذ نعومة أظافره قد لا يتفكر في قيمتها كثيراً.ولا يمكنه تقدير هذه النعم إلا إذا أعاد التفكر فيها.
ومن الناحية المقابلة فالإنسان الذي يتفكر لا فرق عنده إذا سواء كان امتلاكه لهذه النعم منذ ولادته أو أنه أحرزها فيما بعد. فهو لا ينظر إلى ممتلكاته بطريقة اعتيادية إذ انه يعلم ان أي شيء يملكه قد خلقه الله وأن الله قادر على استرجاعه منه لو شاء. فمثلاً يدعو المؤمنون بالدعاء التالي عندما يركبون دوابهم, وهي السيارات في أيامنا هذه:? لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا الى ربنا لمنقلبون ? ]الزخرف:13 [
وفي أية أخرى، يتعلم المؤمنون أن يقولوا إذا ما دخلوا حدائقهم: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ]الكهف: 31[ وكلما دخلوها يتذكرون ان الله خلقها وهو يمدها بأسباب الحياة. أما بالنسبة للإنسان الذي لا يتفكر قد يتأثر عندما يرى جمال الحدائق ولكنها فيما بعد تصبح مكاناً عادياً بالنسبة له, ويتلاشى تقديره لجمالها.كما ان بعض الناس لا يلاحظون النعم أبداً لأنهم لا يتفكرون فيها، فهم يعتبرونها أموراً عادية من المفروض وجودها، ولذلك فإنهم لا يستطيعون استشفاف المتعة من جمالها.
خلاصة: من الضرورة أن يزيل الانسان كل الأسباب التي تمنعه من التفكر
كما ذكرنا سابقاً فإن كون معظم الناس لا يتفكرون ويعيشون غافلين عن الحقيقة ليس عذراً كافياً لعدم التفكر. فكل إنسان هو فرد مستقل بنفسه ومسؤول أمام الله عن نفسه فقط. ومن المهم جداً أن نضع نصب أعيننا أن الله يبتلي الناس في هذه الحياة الدنيا، وعدم اهتمام الآخرين وكونهم من الناس الذين لا يتفكّرون ولا يعقلون ولا يرون الحقيقة هو جزء من ابتلائنا في معظم الأحيان. ومن يتفكر بصدق لا يقول:" إن معظم الناس لا يتفكرون وليسوا على اطلاع بهذه لأمور فلماذا يجب عليّ أن أتفكر وحدي؟" بل على العكس من ذلك فإنه يأخذ حذره من خلال تفكره في غفلة هؤلاء الناس ويلجأ الى الله كي لا يكون واحداً منهم. فمن الواضح أن وضع هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون عذراً له. وفي القرآن الكريم يعلمنا الله في الكثير من الآيات أن أكثر الغافلين لا يؤمنون.?وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين?] يوسف:103 [
?آلمر، تلك آيات الكتاب والذي أنزل اليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ? ]الرعد:1[
?وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ?] النحل:38 [
?ولقد صرّفناه بينهم ليذّكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراّ ?] الفرقان:50 [
وفي آيات أخرى يبلغنا الله بنهاية هؤلاء الذي ضلّوا لأنهم اتبعوا الأغلبية ففشلوا في اطاعة أوامره لأنهم نسوا الغاية من خلقهم ? وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير?
]فاطر:37[
لهذا السبب يجب على كل انسان أن يتخلص من الأسباب التي تمنعه من التفكر، وأن يتفكر بصدق وإخلاص ويستخلص العبر والتحذيرات من تفكره.
وفي الفصل التالي سوف نناقش ما يمكن أن يتفكر فيه الانسان من أحداث ومخلوقات يصادفها في حياته اليومية، وهدفنا أن تؤمن هذه الموضوعات لقراء هذا الكتاب أرشاداً يساعدهم على قضاء ما تبقى من حياتهم كأشخاص يتفكرون ويستخلصون العبر مما يتفكرون فيه.
تلك الأشياء التي يجب أن نتفكّر فيها
من بداية هذا الكتاب، أشرنا الى أهمية التفكر، والمنافع التي يجلبها للإنسان، والى كونه ملكةً مهمة جداً تميّز الانسان عن غيره من المخلوقات. كما ذكرنا أيضاً الأسباب التي تمنع الناس من التفكر. والهدف الرئيسي من ذلك كله تشجيع الناس على التفكر ومساعدتهم على إدراك الغاية من خلقهم وتعظيم قدرة الله وعلمه اللا محدودين.
في الصفحات التي تلي سوف نحاول ان نصوّر بماذا يمكن للإنسان المؤمن بالله أن يتفكرمن خلال ما يمر به من اشياء يومياً، وما هي العبر التي يمكن أن يستخلصها من الأحداث التي يشهدها، وكيف يجب عليه أن يشكر الله ويتقرب اليه عندما يعاين علمه وإبداعه -سبحانه وتعالى- في كل شيء.
بطبيعة الحال ما سنذكره هنا لا يغطي الا قسماً صغيراً من قدرة الإنسان على التفكر، فالإنسان عنده القابلية للتفكر في كل لحظة (ليس في كل ساعة ولا دقيقة ولا ثانية، بل في كل لحظة) من حياته. ومدى قدرته على التفكر واسع لدرجة يستحيل معها وضع حدود أو ضوابط له. والهدف مما سنذكره هو مجرد فتح الأبواب أمام الناس للاستفادة من ملكة التفكيرعندهم كما يجب.
يجب أن تتولد في الذهن القناعة بأن الأشخاص الذين يتفكرون هم وحدهم القادرون على فهم وتقدير مختلف الأمور. وقد ذكر الله في الآيات الكريمة التالية حال أولئك الذين لا يبصرون الأمور الاعجازية من حولهم فلا يستطيعون التفكر فيها، فقال تعالى:?ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صمُّ بكمُ عميُ فهم لا يعقلون?]البقرة: 171[ ?... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون? ]الأعراف:179 [?أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً? ] الفرقان:44[ .
ان الذين يتفكرون يرون آيات الله والجوانب الإعجازية في المخلوقات وفي الأحداث، فيفهمون، وأمثالهم هم القادرون على استخلاص العبر من كل شيء حولهم، كبيراً كان أم صغيراً.
عندما يستيقظ الإنسان في الصباح...
لا يحتاج المرء الى شروط خاصة للبدء بالتفكر، فمن اللحظة التي نستيقظ فيها من النوم، تجد الكثير من الأفكار طريقها الينا، فهناك يوم كامل يمتد أمامنا، قلما نشعر خلاله بالتعب أو النعاس، ونكون على استعداد لمعاودة كل الأمور مرة أخرى. والتفكر بهذا يذكرنا بقوله تعالى:? وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهارنشوراً?]الفرقان:47[.
عندما نغسل وجوهنا أو نستحم نستجمع قوانا ونستعيد رشدنا بشكل كامل، وعندها نصبح على استعداد للتفكر في أشياء مفيدة، فهناك شؤون التفكر فيها أهم بكثير من التفكير ماذا سنتناول كفطور، أو في أي ساعة سنغادر المنزل! فقبل كل شيء كوننا استطعنا أن نستيقظ في الصباح معجزة عظيمة في حد ذاتها، فرغم كوننا فاقدي الوعي كلياً خلال النوم فإننا في الصباح نستعيد وعينا ووجودنا، وتخفق قلوبنا، ونتمكن من التنفس، والكلام والرؤية والمشي.. مع أنه ليس هناك ما يضمن أن هذه النعم ستعود الينا في الصباح، أو اننا لن تصيبنا أي مصيبة خلال الليل. فلربما أدّى شرود أحد الجيران الى تسرب غازي، فيوقظنا حدوث انفجار كبير، أو قد تحدث كارثة في المنطقة التي نعيش فيها نخسر على إثرها أرواحنا..وقد نتعرض لمشاكل أخرى في أجسامنا، فقد نستيقظ مصابين بآلام مبرحة في الكلى، أو الرأس ، ومع ذلك، لم يحدث شيء من هذا واستيقظنا في الصباح آمنين مطمئنين.. التفكر بهذه الأمور يجعلنا نشكر الله على رحمته بنا وحفظه لنا. فاستهلال النهار بصحة جيدة معناه أن الله يعطينا فرصة أخرى لتحقيق المزيد من أجل آخرتنا.
لذلك، فإن أفضل ما نفعله أن نمضي يومنا في مرضاته سبحانه وتعالى، ونجعلها قبل كل شيء، فنخطط لإبقاء أذهاننا مشغولة بمثل ما ذكرناه من أفكار. ونقطة البداية في تحصيل مرضاة الله، سؤله أن يعيننا في أمرنا هذا، ودعاء سيدنا سليمان عليه السلام مثال جيد لكل المؤمنين:?ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين?]النمل:19[.
بماذا تجعلنا بعض معالم جسم الإنسان نتفكّر
ولا يقتصر التفكّر عند النظر في الملرآة على ما ذكرناه، فقد تخطر على بالنا أشياء كثيرة لم نتفكر فيها من قبل، مثل رموش عيوننا وحواجبنا، وكيف أن أسناننا وعظامنا تتوقف عن النمو عندما تصل إلى طول معين فيما يستمر الشعر بالنمو. وبكلمات أخرى كيف أن أعضاء الجسم التي يسبب نموها الزائد مساوئ وقبحا ًتتوقف عن النمو، وتستمر الأخرى التي تضفي على الإنسان جمالاً - كالشعر مثلاً- بالنمو، هذا مع ملاحظة التكامل والتناسق التام في نمو العظام. فلا تنمو الأطراف العليا من الأيدي والأرجل بدون فائدة جاعلة الجسم يبدو دون الحجم بالنسبة لها.. فنمو العظام يتوقف في الوقت المناسب، كما لو أن كل عظمة تعرف المقدار الذي يجب أن تصل إليه.
صحيح أن الأمور التي ذكرناها تحدث كنتيجة لتفاعلات كيميائية معينة في الجسم، ولكن الإنسان الذي ينظر اليهل لا بد أن يتساءل: كيف تحدث هذه التفاعلات الكيميائية، ومن الذي قدر الكميات المحددة للهرمونات في أنزيمات الجسم، لتنظم النمو في جميع أنحائه؟ ومن يضبط كمية إفرازات هذه الهرمونات؟ بدون شك من المستحيل الادعاء أن هذه الأشياء تحدث بمحض الصدفة، ومن المستحيل أيضاً للخلايا التي يتأسس منها جسم الإنسان والذرات غير العاقلة التي تتألف منها الخلايا أن تتخذ مثل هذه القرارات ، لذلك فإن من الواضح أن كل ما ذكرناه هو من إبداع الله تعالى الذي خلقنا في أحسن تقويم.
..في الطريق
مباشرة بعد الاستيقاظ من النوم صباحاً والاستعداد يمضي معظم الناس في شؤونهم فمنهم من يتوجه إلى عمله ومنهم من يذهب إلى المدرسة، ومنهم من يمضي لتسوية بعض الأمور في مكان ما في هذا العالم الرحب. بالنسبة للمؤمن هذه الرحلة القصيرة هي نقطة البداية للقيام بالأعمال الصالحة التي ترضي الله سبحانه وتعالى. فعندما نستيقظ نشكر المولى تعالى الذي وهبنا يوماً آخر نكسب فيه من رزقه، والآن وقد مضينا في أمرنا، فقد بدأت الرحلة التي يمكن أن نكسب من خلالها هذا الرزق وعندما نتفكر في هذا الأمر لا بد أن نذكر قوله تعالى ?وجعلنا النهار معاشا?[النبأ:11]. ووفقاً لهذه الآية يجب علينا أن نخطط كيف سنمضي يومنا في أعمال ذات نفع للعباد ترضي الله سبحانه وتعالى.
وعندما نترك المنزل نمر بشكل تلقائي بالكثير من الأمور التي يجب أن نتفكر فيها، فهناك الآلآف من الناس والسيارات والأشجار الكبيرة والصغيرة، والتفاصيل التي لا تعد ولا تحصى من حولنا، وبالطبع فإن توجهات المؤمن محددة، فسوف نحاول الاستفادة لأقصى الحدود مما نراه حولنا ونتفكر في الأحداث والأسباب. فما يمر بنا من مشاهد إنما يمر بعلم الله وإرادته، ولا بد أن يكون هناك سبب من وراء ذلك فبما أن الله جعلنا نخرج، ووضع هذه المشاهد أمامنا، فلا بد أن فيها ما يجب أن نراه ونتدبره.
وحين نصل إلى سيارتنا أو أي وسيلة نقل أخرى. وفي خلدنا كل هذه الأفكار. نشكر الله مرة أخرى، إذ مهما كانت المسافات طويلة فقد سخر لنا الله وسيلة للوصول، وكما هو معلوم، فقد خلق الله للناس الكثير من الوسائل ليستعينوا بها في السفر. وقدّم التطور التكنلوجي إمكانيات جديدة مثل السيارات والقطارات والطائرات والسفن والمروحيات والحافلات وغيرها. وعند يتدبّر هذا الأمر يتذكر الإنسان أن الله تعالى هو الذي سخّر التكنولوجيا في خدمة البشرية. ففي كل يوم يخرج العلماء باكتشافات واختراعات جديدة تسهل علينا حياتنا، وهميصلون اليها جميعاً بالوسائل التي خلقها الله على الأرض. ومن يتفكر، يتابع رحلته شاكراً المولى تعلى الذي سخر لخدمتنا كل هذه الأمور.
وفيما نمضي في وجهتنا حاملين مثل هذه الأفكار فإن كومة نفايات، أو رائحة كريهة أو أماكن معتمة نمر بها تثير في أذهاننا أفكاراً متعددة.
فقد خلق الله في هذا العالم أماكن ومشاهد تجعلنا قادرين على تصور الجنة والنار، أو التخمين من خلال المقارنة كيف ستكونان. فأكوام النفايات والروائح الكريهة والأماكن الضيقة المعتمة القذرة تسبب كرباً كبيراً لأرواحنا ! ولا أحد يود أن يكون في مثل هذه الأماكن، وكل هذه الخصائص تذكر الإنسان بجهنم، وكل من يلتقي بهذه المشاهد يتذكر الآيات التي تتحدث عن النار: فالله سبحانه وتعالى يصف لنا ظلمة وقذارة وكراهة المشاهد في جهنم.
?وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم?[الواقعة:41-44].
?وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيرا?[الفرقان:13-14].
وعند تذكر هذه الآيات القرآنية ندعو الله أن يجيرنا من نار جهنم ونسأله أن يغفر لنا ذنوبنا.
ومن زاوية أخرى فإن الإنسان الذي لا يوظف أفكاره بهذه الطريقة سوف يمضي نهاره متذمراً قلقاً، باحثاً عمّا يغضب في كل حدث، فيستشيط
هل تفكرت يوماً في حقيقة وجودك، كيف حملتك أمك ثم ولدتك، فجئت الى هذا العالم ولم تكن من قبل شيئاً؟
هل تأملت يوماً كيف تنبت تلك الأزهار المزروعة في أحواض غرفة الجلوس من قلب تراب أسود فاحم موحل بألوان زاهية وشذىً عطر؟
هل شغلك انزعاجك من طيران البعوض حولك عن التفكر كيف انها تحرك أجنحتها بسرعة فائقة تجعلك غير قادر على رؤيتها؟
هل تفكّرت يوماً بأن قشور الفاكهة المهملة هي في حقيقتها أغلفة حافظة عالية الجودة، وبأن هذه الفاكهة - كالموز والبطيخ والبرتقال مثلاً- موضبة في داخلها بطريقة تحفظ طعمها وشذاها؟
هل تدبّرت يوماً كيف يمضي العمر حثيثاً، فتذكرت أنك سوف تشيخ وتصبح ضعيفاً وتفقد جمالك وصحتك وقوتك؟
هل فكرت في ذلك اليوم الذي سوف يرسل الله فيه ملائكة الموت لترحل معهم عن هذا العالم؟
هل تساءلت يوماً لماذا يتعلق الناس بدنيا فانية فيما هم بحاجة ماسة الى المجاهدة من أجل الفوز بالآخرة؟
ان الانسان هو المخلوق الذي أنعم الله عليه بملكة التفكير، ومع ذلك فإن معظم الناس لا يستخدمون هذه الملكة المهمة كما يجب، حتى أن بعض الناس يكاد لا يتفكر أبداً!..
في الحقيقة كل انسان يمتلك قدرة على التفكر هو نفسه ليس على دراية بمداها، وما ان يبدأ الانسان باستكشاف قدرته هذه واستخدامها، حتى يتبدى له الكثير من الحقائق التي لم يستطع أن يسبر أغوارها من قبل. وهذا الأمر في متناول أي شخص، وكلما استغرق الانسان في تأمل الحقائق، كلما تعززت قدرته على التفكر. ولا يحتاج الانسان في حياته سوى هذا التفكر الملي والمجاهدة الدؤوبة من بعده..
إن الهدف من هذا الكتاب هو دعوة الناس الى" التفكير كما ينبغي"، وإبراز الوسائل التي تساعدهم على ذلك. فالانسان الذي لا يتفكر يبقى بعيداً كليّاً عن إدراك الحقائق ويعيش حياةً قوامها الإثم وخداع الذات، وبالتالي فإنه لن يتوصل الى مراد الله من خلق الكون، ولن يدرك سبب وجوده على الأرض.. فالله سبحانه وتعالى خلق كل شيء لسبب، وهذه حقيقة ذكرها عز وجل في القرآن الكريم بقوله: ?وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين. ما خلقناهما الا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون? الدخان: ]38-39[. وقوله:?أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم الينا لا ترجعون?] المؤمنون: 115[
اذاً على كل انسان أن يتفكر في الغاية من خلقه لأن ذلك له علاقة مباشرة به أولاً، وبكل ما يراه حوله في الكون وكل ما يعرض له في حياته تالياً. ان الانسان الذي لا يتفكر، لا يدرك الحقائق الا بعد الموت حين يقف بين يدي ربه ليلقى حسابه، وحينها يكون الأوان قد فات. والله تعالى يذكر في محكم كتابه إن كل الناس سوف يتفكرون عندما يعاينون الحقيقة في يوم الحساب ?وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي? ]الفجر: 23-24 [
لقد أعطانا الله جلّ وعلا الفرصة للتفكر واستخلاص العبر ورؤية الحقائق في هذه الحياة الدنيا لنفوز فوزاً عظيماً في الآخرة، فأنزل الكتب السماوية، وأرسل الرسل داعياً الناس عبرهم للتفكر في أنفسهم وفي خلق الكون من حولهم.?أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى، وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون? الروم:8
التفكّر العميق
معظم الناس يظن أن "التفكر العميق" يقتضي من الانسان أن يعتزل المجتمع ويقطع علاقاته بالناس ثم ينسحب الى غرفة خالية ويضع رأسه بين يديه و... إنهم يصنعون من التفكر العميق قضية صعبة جداً، تجعلهم يخلصون الى القول بأن الأمر سمة خاصة بالفلاسفة فقط.. مع أن القضية أبسط من ذلك بكثير، فكما ذكرنا في المقدمة فإن الله تعالى يدعو جميع عباده ليتفكروا ويتدبروا خاصة في آيات القرآن الكريم الذي أنزله الله لهذا الغرض. يقول جل وعلا:? كتاب أنزلناه اليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب? ]ص:29 [، ويمتدح الله تعالى عباده الذين يقودهم تدبّرهم وتفكّرهم الى إدراك الحقيقة وبالتالي الى مخافته سبحانه. فالمهم في الأمر كله اذاً أن يستطيع الانسان تطوير ملكة التفكر عنده وتعميقها أكثر فأكثر.
ان الانسان الذي لا يبذل جهده في التفكر والتدبر والتذكر يعيش في حالة دائمة من الغفلة، وحالة الغفلة التي يعيشها أولئك الذين لا يتفكرون، بما توحيه كلمة الغفلة من التجاهل مع عدم النسيان والانغماس في الشهوات والوقوع في الاثم والاستخفاف والاهمال، هي نتيجة من نتائج تجاهلهم وتناسيهم للغاية من خلقهم ولكل الحقائق التي يعلمهم اياها الدين، وهذا الأمر عظيم وخطير ومؤداه في النهاية الى نار جهنم؛ لذلك حذرنا القرآن الكريم أن نكون من الغافلين، فقال تعالى:?واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين?] الأعراف:205 [وقال:?وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون? ]مريم:39 [.
ويبين الله تعالى زيغ الذين يتبعون ما ألفوا عليه آباءهم اتباعاً أعمى دون أن يفكروا بما يحمله التقليد من ضلال، ولو نوقشوا في أمرهم لأجابوا فوراً بأنهم مؤمنون بالله ملتزمون بتعاليمه، لكن بما انهم لم يعقلوا فيتفكروا ويتدبروا ويتّعظوا فإن ايمانهم هذا لم يؤدّ بهم الى الصلاح وبالتالي الى مخافة الله الحقة.ان عقلية هؤلاء البشر تظهر بوضوح من خلال الآيات التالية:?قل لمن الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم. سيقولون لله قل أفلا تتقون . قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ان كنتم تعلمون. سيقولون لله قل فأنّى تسحرون? ]المؤمنون: 84-90[
التفكر يبطل السحر عن الناس
في الآيات السابقة يسائل الله تعالى الناس?قل فأنّى تسحرون? تسحرون في الآية الكريمة تعني حالة من الجمود العقلي تسيطر بشكل كامل على بعض الناس، فيغشى بصر من يصاب بها ويتصرف وكأنه لا يرى الحقائق أمام عينيه، وتضعف قدرته على التمييز والحكم على الأمور، ويصبح عير قادر على ادراك الحقائق المبسطة، كما يغفل عن ما يدور حوله من أمور غير اعتيادية وتخفى عنه دقائق الأحداث. هذا الجمود العقلي هو الذي أدى الى أن يعيش البشر منذ آلاف السنين حياة الغفلة بعيدين كلياً عن التفكر والتدبر والاعتبار. ويمكن لهذا المثال الذي سنذكره الآن أن يوضح لنا تأثير هذا السحر الذي حل بشكل جماعي على الأمم:
كلنا يعرف أن هناك طبقة أرضية تسمى "الصهارة" تحتوي مواد مذابة على درجة عالية جداً من الغليان تكمن مباشرة تحت القشرة الأرضية؛ وبما أن القشرة الأرضية رقيقة جداً ويمكن مقارنة سماكتها بالنسبة الى الكرة الأرضية ككل بسماكة قشرة التفاحة بالنسبة الى التفاحة كلها، فإننا قريبون جداً من الانفجار الذي قد يحدث لهذه الطبقة، فهو تقريباً تحت أقدامنا، ومع ذلك فمعظم الناس لا يتدبرون هذا الأمر، تماماً كما ان أهلهم وإخوانهم وأقاربهم وأصدقاءهم، وجميع وسائل الاعلام ومنتجي البرامج التلفزيونية، وأساتذة الجامعات، لا يتنبهون الى هذا الأمر. ولكن لو افترضنا أن شخصاً مصاباً بفقدان الذاكرة الكلي، يحاول إعادة بناء ذاكرته والاستعلام عن محيطه عبر طرح الاسئلة على الناس من حوله، فمن المفترض أن أول سؤال سوف يتبادر الى ذهنه، أين أنا؟ ماذا لو قيل له انه يقف على عالم من النار الملتهبة، وأن هذا اللهب يمكن أن يتفجر على سطح الأرض فيما لو حدثت أية هزة أرضية أو ثورة بركانية.
ولو افترضنا أن نفس الشخص أخبر بأن هذا العالم الذي يعيش فيه مجرد كوكب يسبح في فجوة مظلمة مترامية الأطراف تسمى الفضاء، وهذا الفضاء يختزن هو الآخر طبقة ملتهبة أعظم خطراً من تلك الكامنة تحت سطح الأرض، تتحرك فيها -على سبيل المثال- آلاف الأطنان من النيازك الحارقة بحرية تامة وليس هناك ما يمنعها أن تحيد عن مسارها وتصطدم بالأرض، بتأثير جاذبي من كوكب آخر -مثلاً- أو لأي سبب آخر.
إزاء كل هذه الحقائق لن يستطيع هذا الشخص أن ينسى خطورة الوضع الذي يعيش فيه، ولسوف يبدأ بالتساؤل: كيف يمكن للناس أن يعيشوا في هذا المحيط، مع كل ما يكتنفه من مخاطر، ويتمسكوا به ويعضّواعليه بالنواجذ؟! لكنه سوف يدرك فيما بعد ان هناك نظاماً متكاملاً قد أخذ حيّزه من الوجود. فرغم الخطر الكامن داخل الكوكب الذي يعيش فيه، هناك توازن دقيق يمنع هذا الخطر من إلحاق الضرر بالناس، إلا في ظروف استثنائية، وهذا الادراك سيجعله يفهم أن الارض ومن عليها من مخلوقات انما تستمد وجودها وتعيش بأمان بإرادة الله تعالى وحده الذي أوجد هذا النظام المتكامل للحياة.
هذا واحد من ملايين، بل بلايين، الامثلة التي يجب أن يتفكر فيها البشر. ولعل إعطاء مثال آخر يساعدنا على أن ندرك كم تؤثر الغفلة على قدرة الناس على التفكر وتحد من قدراتهم العقلية.
يعلم الناس أن الحياة الدنيا فانية وأن العمر يمضي حثيثاُ ومع ذلك فإنهم يتصرفون وكأنهم لن يبارحوا هذا العالم وأنهم مخلدون. وهذا في الحقيقة نوع من السحر تعاقبت على حمله الأجيال، وله تأثير بالغ عليهم لدرجة أنه عندما يتحدث شخص ما عن الموت فإن الناس يقفلون الموضوع مباشرة لأنهم يخافون أن يبطل هذا الحديث السحر عنهم ويضعهم في مواجهة الحقائق.
أولئك الناس الذين بددوا حياتهم كلها في شراء سيارة ومنزل جميل وآخر لقضاء العطلة الصيفية والبحث عن مدارس ذات مستوى ليرسلوا أبناءهم اليها، تناسوا أنهم سوف يموتون في يوم من الأيام ويخلّفوا وراءهم البيوت والسيارات والأولاد، وتركوا التفكير بما يجب أن يقدموا للحياة الحقيقية بعد الموت. ان الموت قادم لا محالة، وكل الناس سوف يموتون حتماً عاجلاً أم آجلا ، واحداً تلو الآخر، سواء صدقوا ذلك أم لا، وبعد ذلك تبدأ الحياة الأبدية لكل منا، إما الى الجنة أو الى النار، فالأمر يعتمد على ما أسلف الانسان في هذه الحياة القصيرة. ومع أن هذه الحقائق واضحة كعين الشمس، فإن السبب الوحيد الذي يجعل الناس يتعاملون مع الموت وكأنه غير موجود، هو ذلك السحر الذي سيطر عليهم لأنهم أعرضوا عن التفكر.
ان الذين لا يؤدي بهم التفكر الى إنقاذ أنفسهم من هذا السحر وبالتالي من حياة الغفلة سوف يفهمون الحقائق عندما يرونها رأي العين بعد الموت، قال تعالى:? لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد? ]ق:22[
فكما يقول الله تعالى في الآية الكريمة فإن البصر الذي تكتنفه الغشاوة في الحياة الدنيا بسبب عدم التفكر، ولكنه سيكون حاداً عندما يحاسب الانسان في الآخرة بعد الموت.
وجدير بالذكر في هذا المقام أن الناس هم الذين يفرضون على أنفسهم هذا النوع من السحر بملء إرادتهم لأنهم يظنون انهم بهذه الطريقة سوف يعيشون حياة رغد واسترخاء. لكن من السهل جداً اتخاذ قرارالتخلص من الجمود العقلي وعيش الحياة بوعي وإدراك، فلقد قدم الله تعالى الحلول للناس، فالذين يتفكرون يستطيعون بكل سهولة أن يبطلوا عن أنفسهم هذا السحر فيما هم على قيد الحياة، ويفهموا كل ما يدور حولهم من الأحداث والغاية منها ودقائق معانيها، والحكمة مما يقضيه الله من أمور في كل لحظة.
التفكر ممكن في أي زمان وأي مكان
ان التفكر والتدبر لا يستدعيان مكاناً أو زماناً أو شروطاً محددة، فاانسان يمكن أن يتفكر ويتدبر خلال المشي في الشارع، عند توجهه الى مكتبه، خلال قيادته لسيارته، أو خلال عمله أمام شاشة الكومبيوتر، أو خلال جلسات السمر مع أصدقائه، وربما خلال مشاهدة التلفزيون أو حتى خلال تناول الطعام.
فخلال قيادة السيارة مثلاً يمكن يمكن رؤية مئات الأشخاص في الشوارع، وعندما ينظر الانسان الى هؤلاء الأشخاص يمكنه أن يتفكر في أمور شتى، فلربما انصرف ذهنه الى الاختلاف الكامل في المظهر بين هؤلاء الناس، فليس هناك واحد منهم يشبه الآخر! كم هو مذهل هذا الاختلاف في المظهر بين الناس الذين لديهم نفس الأعضاء من العيون الى الحواجب الى الرموش والأكف والأيادي والأرجل والأفواه والأنوف.. ولو استغرق الانسان في التفكير أكثر لتذكر أن الله قد خلق الالوف من البشر عبر بلايين السنين وكل واحد منهم مختلف عن الآخر، وما ذلك الا دليل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى. والذي يراقب كل هؤلاء الناس يحثّون الخطى؛ تتجاذبه أفكار شتى، فللوهلة الأولى يبدو أن كل واحد من هؤلاء هو نسيج وحده، له عالمه الخاص وأمنياته ومشاريعه وذوقه وأسلوبه في العيش، وأمور تفرحه وأخرى تحزنه.. ولكن هذه الخلافات بين البشر ليست أساسية، فبشكل عام كل انسان يولد ويكبر ويتعلم ثم يتزوج وينجب الأولاد ويزوجهم فيصبح جدّاً أو جدة ثم يتوفى في النهاية.. من هذه الناحية ليس هناك اختلاف كبيرفي حياة الناس، سواء كانوا يعيشون في حي في استانبول أو في مدينة في المكسيك، فإن ذلك لن يغير شيئاً ، فكل هؤلاء الناس سوف يموتون وربما بعد قرن من الزمان لن يبقى منهم أحد على قيد الحياة. ومن يدرك هذه الحقائق لا بد أن يسأل نفسه: بما أننا في يوم من الأيام سوف نموت جميعاً لماذا يتصرف الناس وكأننا لن نبارح هذا العالم؟ ولماذا يتصرف من أدرك حتمية موته وكأن هذه الحياة الدنيا لن تنتهي في حين يجدر به أن يجاهد من أجل الفوز بالآخرة؟!
وفي حين أن غالبية الناس لا تتفكر بهذه الأمور فإن من توصل الى التفكر بها سيخلص الى نتائج حاسمة. فلو سئل معظم الناس بشكل مفاجىء: بماذا تفكرون في هذه اللحظة؟ سوف يظهر بوضوح انهم يفكرون بأمور ليست ذات بال ولا تعود عليهم بالنفع. وعلى كل حال، فإن كل انسان يمكن أن يتفكر بحكمة في أمور مهمة وذات قيمة ومعنى ويتدبرها ويخلص الى نتائج من وراء ذلك. ويعلمنا القرآن الكريم أن من صفات المؤمنين أنهم يتفكرون ويتدبرون ليخلصوا الى النتائج التي تعود بالنفع عليهم.?إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذي يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا م اخلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار? آل عمران: 190-191 فكما تخبرنا الآيتان الكريمتان فإن تفكر المؤمنين مكّنهم من رؤية جانب الإعجاز في الخلق وتمجيد حكمة الله وعلمه وقدرته.
إخلاص النية لله عند التفكر
من أجل أن يعود التفكر بالنفع على الانسان ويهديه الى جادة الحق، يجب عليه أن يفكر دائماً بطريقة إيجابية. هناك فرق كبير بين من ينظر الى شخص حباه الله بحسن الهيئة من منظار عقدة النقص الناشئة عن عدم التكافؤ في المظهر الخارجي بينهما، فيشعر بالغيرة ويؤدي به تفكره الى ما لا يرضي الله، وبين من يسعى الى مرضاة الله فينظر الى هذا الشخص على أنه جمال من خلق الله، ويعتبر حسن هيئته برهاناً على كمال الله في خلقه، فيشعر بسعادة غامرة ويدعو الله أن يزيد هذا الانسان جمالاً في الآخرة، كما يدعو لنفسه أن يرزقه الله الجمال الأبدي في دار الخلود، ويفهم أن الانسان لا يمكن أن يكون كاملاً في الحياة الدنيا، لأن حياتنا هذه خلقت غير كاملة كجزء من ابتلائنا فيها، وبذلك كله يزيد توقه وتطلعه الى الفوز بالجنة. وهذا كله مثال واحد على الإخلاص في التفكر، ولسوف يعرض للإنسان الكثير من الأمثلة المشابهة في حياته، خاصة وأنه في امتحان دائم ليرى ان كان سيسلك سلوكاً حسناً ويفكر بأسلوب يرضي الله.
إن نجاح الانسان في امتحان التفكر، وكون التفكر سيعود عليه بالنفع في الآخرة يعتمد على التدبر والاعتبار من الدروس والتحذيرات التي يستخلصها أثناء تفكره، ولذلك فإن من الضرورة بمكان أن يتفكر الانسان بصدق دائماً. قال تعالى:?هو الذي يريكم آياته وينزّل من السماء رزقاً وما يتذكر إلا من ينيب? ]غافر:13[.
بماذا يتفكر الناس عادة؟
ذكرنا سابقاً أن الناس لا يتفكّرون ولا يطوّرون قدرتهم على التفكر، وبالإضافة الى ذلك يجب توضيح نقطة هامة. بالطبع هناك أسياء كثيرة تخطر على بال الانسان في كل لحظة من لحظات حياته، فبالكاد تمر دقيقة يكون عقل الانسان فبها خالياً، باستثناء ساعات النوم. لكن معظم هذه الأفكار عديم الفائدة ولا طائل تحته وغير ضروري؛ فهي لا تنفع في الآخرة ولا تؤدي الى أي مكان ولا تقدم أية منفعة.
فإذا حاول الانسان أن يتذكر بماذا فكر خلال النهار ثم سجّله ليراجعه في آخر النهار سيدرك كم أن معظم أفكاره لا جدوى لها، وحتى لو وجد بعضها نافعاً فمن الأرجح أن يكون مخطئاً في تقديره. فبشكل عام الأفكار التي تبدو صحيحة قد لا يكون لها أي نفع في الآخرة.
وتماماً كما يضيّع الناس أوقاتهم في حياتهم اليومية بمعالجة أمور تافهة، فإنهم كذلك يمضون يومهم في اللغو منجرفين في أفكار غير ذات جدوى. وفي قوله تعالى:?قد أفلح المؤمنون.. والذين هم عن اللغو معرضون? ]المؤمنون:3[ ينصح الله تعالى الناس أن يكونوا أقوياء العزيمة في اعراضهم هذا. وبالتأكيد فإن أمر الله هذا يصح أيضاً على أفكار الناس. هذا لأننا إذا لم نسيطر على أفكارنا بوعي فإنها سوف تظل تنساب في عقولنا بشكل متواصل، فيقفز الإنسان دون وعي من فكرة إلى أخرى. فمثلاً، خلال التفكير بالأشياء التي سوف يتسوّقها في طريقه إلى البيت يجد نفسه فجأة يفكّر بأشياء أخبره بها صديق قبل سنة أو سنتين: هذه الأفكار غير المضبوطة وغير النافعة قد تستمر دون اعتراض خلال النهار كله.
الا أن السيطرة على التفكير ممكنة. فكل منا يمتلك القدرة على التفكير بأشياء تفيده وتفيد إيمانه، وعقله، وتحسّن كياسته وإحاطته بالأمور.
وفي هذا الفصل سوف نذكر كل أنواع الأفكار التي يفكّر بها الغافلون بشكل عام. والغاية من ذكر هذه الموضوعات بالتفصيل ان يتنبّه الذين يقرأون هذا الكتاب فوراً عندما تمر أشياء مماثلة في أذهانهم - حين يكونون في طريقهم إلى العمل أو المدرسة أو حين يزاولون أعمالهم اليومية - فوراً إلى أنهم يفكّرون بأمور غير مجدية فيسيطروا على أفكارهم ويتفكّروا في أمور تعود عليهم بالنفع حقيقة.
مخاوف غير ذات نفع
عندما يفشل الإنسان في السيطرة على أفكاره وتوجيهها نحو البلوغ به إلى حسن الختام، فإنه قد يشعر بالتخوف من شرور مرتقبة أو يتعامل مع الأحداث التي لم تحصل وكأنها حصلت بالفعل، فيقوده ضلاله إلى الحزن والكرب والخوف والقلق.
فمن عنده شاب يدرس لامتحان جامعي، مثلاً، قد يخترع سيناريوهات لما قد يحصل فيما لو رسب ولده في الامتحان قبل أن تجري الامتحانات: "إذا رسب ابني في الامتحان، فإنه لن يستطيع أن يجد وظيفة جيدة في المستقبل يكسب منها ما يكفي من المال، ولن يكون قادراً على الزواج، ولو تزوج سيستطيع تحمل مصاريف حفل الزفاف؟.. إذا فشل في الإمتحان فإن كل ما صرف من مال على الفصول التحضيرية سوف يذهب هباء، وفوق هذا سوف نكون محتقرين في أعين الناس... ماذا لو نجح ابن صاحبي ورسب ابني..."
وسوء الفهم هذا سوف يستمر ويستمر، مع ان ابن هذا الشخص لم يخضع للامتحان بعد. وخلال حياته كلها لا يمكن للإنسان البعيد عن الدين أن يقاوم مثل هذه المخاوف التي لا ضرورة لها، وهذا بالتأكيد له سببه. ففي القرآن ذكر السبب الذي يجعل الناس غير قادرين على التحرر من هذا القلق هو أنهم يعيرون سمعاً لوساوس الشيطان، إذ يقول الشيطان?ولأضلنّهم ولأمنينّهم..? ]النساء:119 [ .
وكما يرى في الآية أعلاه فإن من يشغل نفسه بمخاوف لا جدوى منها، وينسى الله تعالى ولا يفكّر بصفاء، يكون دائماً عرضة لوساوس الشيطان. وبكلمات أخرى إذا كان الإنسان مخدوعاً بهذه الحياة الدنيا لا يستعمل قوة إرادته ويتصرف بوعي، وإذا سمح لنفسه بالانجراف بمجرى الأحداث فإنه يصبح تحت سيطرة الشيطان بشكل كامل. فإقلاق
ولذلك فإن التشاؤم وسوء الفهم والمخاوف المتحكمة في الذهن مثل "ماذا سأفعل إذا حصل كذا وكذا" سببها وساوس الشيطان.
والله سبحانه وتعالى يعلم الناس الطرق التي تقيهم من هذا الوضع. ففي القرآن ينصح الله الناس باللجوء إليه إذا نزغهم من الشيطان نزغ فيقول:"إن الذين اتّقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدّونهم في الغيّ ثم لا يقصرون? ]الأعراف 201 - 202[ .
وكما هو مذكور في الآية فإن من يتفكّر يدرك الصواب ومن لا يتفكّر يمضي إلى حيث يجره الشيطان. المهم ان نعرف أن هذه الأفكار لن تنفع الإنسان بل على العكس سوف تمنعه من التفكير بالحقيقة، والتفكر بأمور مهمة وبالتالي تطهير ذهنه من الأفكار غير المجدية. فلا يمكن للإنسان ان يتفكّر بطريقة صائبة إلا إذا حرر ذهنه من الأفكار التافهة. وبهذه الطريقة "يعرض عن اللغو" كما يأمر الله تعالى في القرآن.
ما هي الأسباب التي تمنع الناس من التفكر؟
هناك عوامل عديدة تمنع الناس من التفكر، مجموع هذه العوامل أو بعض منها، أو حتى واحد فقط قد يعيق تفكر الإنسان ويمنعه من ادراك الحقائق. لذلك يجب عليه أن يحدد العوامل التي تؤثر فيه سلباً ليتخلص منها، وإلا فإنه لن يستطيع أن يرى الوجه الحقيقي لهذه الحياة الدنيا، فيخسر خسراناً مبيناً في الآخرة.
والله سبحانه ينبئنا عن حال أولئك الذين تعوّدوا أن يفكروا بسطحية، فيقول تعالى?يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون. أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاىء ربهم لكافرون? ]الروم: 7-8[.
وفيما يلي بعض العوامل التي تمنع الناس من التفكر:
اعتقاد الناس أن ما تفعله الأكثرية بينهم هو الصحيح، من أهم الأسباب التي تؤدي الى الضلال. فالإنسان عادة يفضل قبول ما تعلمه من الناس من حوله على البحث عن الحقيقة عبر التفكر، ويرى أن الأشياء التي تبدو غريبة للوهلة الأولى، يعتبرها الناس عادية لدرجة أنهم لا يتنبهون اليها، لذلك فإنه بعد فترة يبدأ بالاعتياد عليها. مثال على ذلك: كثير من الناس حولنا لا يسلّم بأننا سنموت في يوم من الأيام، حتى انهم لا يسمحون لأحد بالتحدث عن هذا الموضوع كي لا يذكرهم بالموت. وعندما ينظر المرء حوله ويرى كيف يتصرف الناس فإنه يقول في نفسه: بما أن هذا حال كل الناس، لن يضيرني أن أتصرف بنفس الطريقة، فيعيش حياته دون أن يتذكر الموت أبداً، ولو أن الناس من حوله خافوا الله وجاهدوا في سبيل الفوز بالآخرة حق جهاد، لكان في أغلب الظن غيّر تصرفه.
مثال آخر على ذلك: تنقل الصحف والتلفزيونات يومياً مئات الأخبار عن الكوارث والظلم والاضطهاد وغياب العدالة، وعن الجرائم وحالات الانتحار، كما تغطي حوادث السرقة وتأتي على ذكر أحوال آلاف المعوزين من البشر؛ ومع ذلك فإن كثيراً من الناس يطوون صفحات الجريدة، ويطفئون جهاز التلفاز وهم بشعرون بسكينة داخلية، وبشكل عام فإن الناس لا يتساءلون لماذا هذا الكم الهائل من تلك الأنباء، وماذا يجب فعله إزاء هذا الواقع؟ وما سبل الوقاية التي يجب اتخاذها لمنع وقوع مثل هذه الأمور؟ وماذا يمكنهم أن يفعلوا إزاء هذه المعضلات؟ بل ان معظمهم ينحو باللائمة على غيره متبعاُ مبدأ: "هل يتوقف عليّ إنقاذ العالم؟"
التكاسل الذهنيِ
التكاسل هو العامل الذي يمنع أغلبية الناس عن التفكر، وبسبب التكاسل الذهني يقوم الناس بأعمالهم بالطريقة التي تعوّدوا أن يروها دائماً دون تغيير. ولإعطاء مثال من خضم حيااتنا اليومية، فإن ربات البيوت ينظفن بيوتهن بنفس الطريقة التي شاهدن والداتهن يقمن بها، وهنّ بشكل عام لا يتساءلن كيف يمكن إنجاز الأعمال بشكل أنظف وطريقة عملية أكثر، والأمر نفسه بالنسبة الى الرجال، فلو احتاج شيء ما الى إصلاح فإنهم يصلحونه بنفس الطريقة التي تعلموها منذ طفولتهم، ومعظمهم يرغب عن تطبيق أسلوب عملي جديد أكثر فاعلية. وأسلوب هذا النوع من الناس متشابه أيضاً، فالمحاسب مثلاً يتكلم بنفس الطريقة التي تكلم بها محاسب ما قابله في حياته.. والأمر كذلك بالنسبة الى الأطباء والمصرفيين ومندوبي المبيعات.. وغيرهم من الناس الذين تجمعهم طبقة اجتماعية معينة فتكون لهم طريقة معينة في التحدث ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير للبحث عن طرق أفضل وأحسن وأصوب، إنما يقلدون ما سمعوه فقط!
كما أن الحلول المبتكرة للمشاكل تعكس كسلهم الذهني. فمثلاً، حارس مبنى ما يعالج مشكلة النفايات فيه تماماً كما كان يفعل من كان قبله، وعمدة مدينة ما يحاول حل مشكلة زحمة المرور عبر مراجعة ما فعله من كان قبله. وفي حالات كثيرة عدم التفكير يجعل صاحب المشكلة غير قادر على إيجاد حل.
طبعاً الأمثلة المذكورة أعلاه هي أمور يعاني منها الناس في حياتهم اليومية، ولكن هناك قضية أهم من ذلك وأعمق بكثير لو أخفق الناس في التفكير فيها، فقد يؤدي بهم ذلك الى الخسران الأبدي المبين، والمقصود من هذا الكلام إخفاق المرء في التفكر في الغاية من وجوده في هذه الدنيا، وتجاهله لحقيقة أن الموت لا يمكن تفاديه، وأننا حتماً سنبعث بعد الموت. ففي القرآن يدعونا الله الى التفكر في هذه الحقائق فيقول جلّ وعلا:? أولئك الذين خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون. لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون? ]هود: 21-24[ ويقول أيضاً:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكّرون? ]النحل:17[.
كثرة التفكير مضرّة!
هناك قناعة سائدة في المجتمعات أن التفكير العميق مضر! فتجد الناس يحذر بعضهم بعضاًَ بالقول: " لا تفكر كثيراً، والا فقدت صوابك"! وهذه بالطبع ليست الا خرافة ابتدعها من نأوا بجانبهم عن الدين. ليس على الناس ان يتجنبوا التفكير ولكن عليهم أن يتجنبوا السلبية أو الانجراف في الوسوسة المبالغ فيها وسوء الفهم
ولأن أولئك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر يتفكرون دون أن يلزموأ أنفسهم بالخير والصلاح، فيتفكرون، ولكن بطريقة سلبية، فإنهم يخرجون من تأملاتهم بخلاصات لا تعود عليهم بأي نفع. فمثلاً، هم يتفكرون في كون الحياة الدنيا مؤقتة، وفي حتمية الموت في يوم من الأيام، ولكن هذا الأمر يثير لديهم الكثير من التشاؤم، بعضهم يتشاءم لأنه يعلم أنه يمضي هذه الحياة المؤقتة في معصية الله، ويحضر نفسه لنهاية بائسة في الآخرة، وبعضهم الآخر يتشاءم لأنه يعتقد أن أثره سيتلاشى كلياً بعد الموت.
أما الشخص الحكيم الذي يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يخرج بنتائج مختلفة تماماً عندما يتدبر في حقيقة هذه الدنيا الفانية.. فقبل كل شيء إدراكه لكون الحياة مؤقته يدفعه الى المجاهدة بشدّة من أجل حياته الحقيقية الأبدية في الآخرة. وبما أنه يعرف أن هذه الحياة سوف تنتهي عاجلاً أم آجلاً، فإنه لا ينجرف في طلب شهوات ومتاع الحياة الدنيا، بل على العكس من ذلك، فإنه يعرض عنها الى أبعد الحدود.. لا شيء في هذه الدنيا الفانية يزعجه فهو دائماً راضً عمّا قسمه الله له من نعم وجمال، لأنه يعلّق آماله على الفوز بالحياة الأبدية المرضية. فقد خلق الله تعالى هذه الحياة الدنيا غير كاملة ليبتلي الناس، والمرء الذكي يفكر: إذا كان هذا العالم غير الكامل فيه هذا الكم من الجمال الذي يسعد الانسان، فلا بد أن جمال الجنة فاتن الى درجة تفوق الخيال، فتراه يأمل أن يعاين في الدار الآخرة منبع كل جمال يشاهده في هذه الدنيا. وهذه القناعات كلها لا تتأتى لديه إلا عبر التفكر العميق.
ولذلك فمن الخسارة بمكان قلق الانسان من ان يصيبه التشاؤم إذا ما وصل الى الحقيقة ، وبالتالي تفاديه التفكر، لأن الانسان الذي يفكر دائماً بإيجابية، ويعلل النفس بالرجاء بفضل إيمانه بالله، ما من أمر يقوده الى التشاؤم.
تفادي المسؤولية التي تترتب على التفكر
يظن معظم الناس أن بإمكانهم التملص من مختلف المسؤوليات عبر تفادي اللتفكر وتشغيل ذهنهم بقضايا معينة، وهم يحسبون أنهم إن فعلوا ذلك فسوف ينجحون بإبعاد أنفسهم عن كثير من الموضوعات. فواحدة من الطرق التي تخدع الناس تكمن في افتراضهم أن بإمكانهم التهرب من مسؤولياتهم تجاه ربهم عبر عدم التفكر، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يجعل الناس لا يتفكرون بالموت والبعث من بعده. أذا تفكر المرء أنه سيموت في يوم ما، وتذكر أن هناك حياة أبدية بعد الموت، فإنه بالضرورة سيجاهد بشدة لحياته بعد الموت.. لكن مع ذلك، ترى بعض النفس يخدع نفسه خداعاً عظيماً بافتراضه أنه تخلص من هذه المسؤولية عندما لا يتفكر في وجود الآخرة، فإذا لم يحرز الإنسان الحقيقة في هذه الحياة الدنيا فإنه سوف يفهمها عندما يدركه الموت الذي لا مهرب منه ?وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد? ]ق:19-20[ .
عدم التفكر بسبب الانجراف في تيارالحياة اليومية
غالبية الناس يقضون حياتهم كلها في" عجلة"، فعندما يصلون الى سن معينة يتوجب عليهم العمل والاعتناء بأنفسهم وبأسرهم. ويسمون ما يفعلونه"كفاحاً من أجل الحياة" ويشكون من عدم وجود وقت لديهم ليفعلوا أي شيء إذ عليهم أن يندفعوا في سبيل كفاحهم هذا. وفي غمرة "ضيق الوقت" يصبح التفكر من الأشياء التي لا يمكنهم تخصيص أي وقت لها. ولذلك فإنهم ينجرفون الى أي مكان يسحبهم اليه تيار الحياة اليومية. وبطريقة العيش هذه يفقدون الاحسلس بالأمور التي تجري حولهم.
وعلى كل حال لا يجب أن يكون هدف الانسن تبديد الوقت بالاستعجال من مكان الى آخر. فالمهم أن يكون الاناسن قادراً على رؤية الوجه الحقيقي لهذه الحياة واتخاذ أسلوب للعيش وفقه. ولا يجب أن تقتصر غايات الانسان على كسب المال، أو الذهاب الى العمل أو الدراسة في الجامعة أو شراء منزل.. فقد يحتاج الانسن باتأكيد الى القيام بهذه الأشياء، ولكن عليه عند القبام بها أن يضع نصب عينيه دائماً أن هدف وجوده هو أن يكون عبداً لله وأن يسعى لاكتساب مرضاته ورحمته ودخول جنته، وباقي الأعمال تنفع كوسائل تعين الانسان على الوصول الى غايته الحقيقية. أما اتخاذ هذه الوسائل كغايات حقيقية وأهداف محددة فإنه خداع كبير يضل به الشيطان الانسان.
ومن يعيش دون أن يتفكر قد يجعل من هذه الوسئل غايته الحقيقية بكل سهولة. ويمكننا أن نضرب مثالاً على ذلك من حياتنا اليومية. فمما لا شك فيه أنه من الحسن أن يعمل وينتج أشياء ذات منفعة لمجتمعه. والمؤمن بالله ينجز مثل هذه الأعمال بحماس ويرجو الثواب من الله تعالى في الحياة بعد الموت. أما إذا قام إنسان بنفس العمل دون أن يذكر الله ولأساب دنيوية فقط مثل السعي وراءالمنصب أو تقدير الناس فإنه يرتكب خطأً، لأنه حوّل أمراً ما من وسيلة لكسب مرضاة الله الى غاية. وسوف يندم على فعلته عندما يواجه الحقائق في الآخرة. وفي الآية التالية يشير الله سبحانه وتعالى الى أولئك الذين ينغمسون في هذه التصرفات في الحياة الدنيا بما يلي:?كالذين كانوا من قبلكم كانوا أشدّ منكم قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذي من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون? ]التوبة:69[
لنظر الى كل شيء بعين العادة وبالتالي عدم رؤية أية حاجة للتفكر فيها
عندما يصادف الناس أموراً معينة للمرة الأولى قد يفهمون طبيعتها الاستثنائية مما قد يحفزهم على التحري أكثر عما يرونه. ويعد فترة تنشأ لديهم مقاومة اعتيادية لهذه الأشياء فلا تعود تؤثر بهم.
وبالتحديد فإن الأشياء والأحداث التي يلاقونها كل يوم تصبح عادية بالنسبة لهم.
فعلى سبيل المثال قد يتأثر من يدرس الطب تأثراً بالغاً عندما يرى جثة للمرة الأولى أو في المرة الأولى التي يموت فيها أحد مرضاه. مما يجعلهم يتأملون ملياً. ويمكن ان يكون السبب أنهم يواجهون انساناً بلا حياة أشبه بالبضاعة، كان منذ دقائق مليئاً بالحياة يضحك ويخطط ويتكلم ويستمتع وتلمع عيناه بالحياة.. وعندما توضع الجثة أمامهم للتشريح للمرة الأولى فإنهم يتفكرون في كل شيء في هذه الجثة, يتفكرون بأن الجسد يفنى بسرعة كبيرة, وأنه تفوح منه رائحة نتنة، والشعر الذي كان جميلاً فيهما مضى يصبح غير جميل ولا يود أحد لمسه.. وبعد ذلك يتفكرون في أن مكونات كل الأجسام هي نفسها وكل واحد منا سيلاقي نفس النهاية, وأنهم هم أيضاً سينتهون الى هذا الشكل.
ولكن بعد رؤية بضع جثث أو فقدان بضعة مرضى ينشأ لدى هؤلاء الناس مقاومة اعتيادية لأشياء محددة فيبدأون بالتعامل مع الجثث وحتى المرض وكأنهم أشياء.
وبالتأكيد هذا الوضع لا يصدق على الأطباء وحدهم, فغالبية الناس ينطبق عليها هذا الوضع في مناحي مختلفة من حياتهم. فمثلاً ينعم الله على انسان يعيش في ظروف صعبة برغد العيش فإنه يفهم ان كل ما يمتلكه رحمة له. فسريره أصبح أكثر، ولبيته منظر جميل, ويمكنه ان يشتري ما يريد ويمكنه أن يدفئ منزله في الشتاء كما يرغب، وبإمكانه التنقل بسهولة بسيارة.. وغيرها من النعم كلها التي قسمت لهذا الانسان، وبالنظر بوضعه السابق فإنه يبتهج بكل واحدة منها، ولكن من يمتلك هذه الأشياء منذ نعومة أظافره قد لا يتفكر في قيمتها كثيراً.ولا يمكنه تقدير هذه النعم إلا إذا أعاد التفكر فيها.
ومن الناحية المقابلة فالإنسان الذي يتفكر لا فرق عنده إذا سواء كان امتلاكه لهذه النعم منذ ولادته أو أنه أحرزها فيما بعد. فهو لا ينظر إلى ممتلكاته بطريقة اعتيادية إذ انه يعلم ان أي شيء يملكه قد خلقه الله وأن الله قادر على استرجاعه منه لو شاء. فمثلاً يدعو المؤمنون بالدعاء التالي عندما يركبون دوابهم, وهي السيارات في أيامنا هذه:? لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنّا الى ربنا لمنقلبون ? ]الزخرف:13 [
وفي أية أخرى، يتعلم المؤمنون أن يقولوا إذا ما دخلوا حدائقهم: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ]الكهف: 31[ وكلما دخلوها يتذكرون ان الله خلقها وهو يمدها بأسباب الحياة. أما بالنسبة للإنسان الذي لا يتفكر قد يتأثر عندما يرى جمال الحدائق ولكنها فيما بعد تصبح مكاناً عادياً بالنسبة له, ويتلاشى تقديره لجمالها.كما ان بعض الناس لا يلاحظون النعم أبداً لأنهم لا يتفكرون فيها، فهم يعتبرونها أموراً عادية من المفروض وجودها، ولذلك فإنهم لا يستطيعون استشفاف المتعة من جمالها.
خلاصة: من الضرورة أن يزيل الانسان كل الأسباب التي تمنعه من التفكر
كما ذكرنا سابقاً فإن كون معظم الناس لا يتفكرون ويعيشون غافلين عن الحقيقة ليس عذراً كافياً لعدم التفكر. فكل إنسان هو فرد مستقل بنفسه ومسؤول أمام الله عن نفسه فقط. ومن المهم جداً أن نضع نصب أعيننا أن الله يبتلي الناس في هذه الحياة الدنيا، وعدم اهتمام الآخرين وكونهم من الناس الذين لا يتفكّرون ولا يعقلون ولا يرون الحقيقة هو جزء من ابتلائنا في معظم الأحيان. ومن يتفكر بصدق لا يقول:" إن معظم الناس لا يتفكرون وليسوا على اطلاع بهذه لأمور فلماذا يجب عليّ أن أتفكر وحدي؟" بل على العكس من ذلك فإنه يأخذ حذره من خلال تفكره في غفلة هؤلاء الناس ويلجأ الى الله كي لا يكون واحداً منهم. فمن الواضح أن وضع هؤلاء الناس لا يمكن أن يكون عذراً له. وفي القرآن الكريم يعلمنا الله في الكثير من الآيات أن أكثر الغافلين لا يؤمنون.?وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين?] يوسف:103 [
?آلمر، تلك آيات الكتاب والذي أنزل اليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ? ]الرعد:1[
?وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ولكن أكثر الناس لا يعلمون ?] النحل:38 [
?ولقد صرّفناه بينهم ليذّكروا فأبى أكثر الناس إلا كفوراّ ?] الفرقان:50 [
وفي آيات أخرى يبلغنا الله بنهاية هؤلاء الذي ضلّوا لأنهم اتبعوا الأغلبية ففشلوا في اطاعة أوامره لأنهم نسوا الغاية من خلقهم ? وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، أولم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير?
]فاطر:37[
لهذا السبب يجب على كل انسان أن يتخلص من الأسباب التي تمنعه من التفكر، وأن يتفكر بصدق وإخلاص ويستخلص العبر والتحذيرات من تفكره.
وفي الفصل التالي سوف نناقش ما يمكن أن يتفكر فيه الانسان من أحداث ومخلوقات يصادفها في حياته اليومية، وهدفنا أن تؤمن هذه الموضوعات لقراء هذا الكتاب أرشاداً يساعدهم على قضاء ما تبقى من حياتهم كأشخاص يتفكرون ويستخلصون العبر مما يتفكرون فيه.
تلك الأشياء التي يجب أن نتفكّر فيها
من بداية هذا الكتاب، أشرنا الى أهمية التفكر، والمنافع التي يجلبها للإنسان، والى كونه ملكةً مهمة جداً تميّز الانسان عن غيره من المخلوقات. كما ذكرنا أيضاً الأسباب التي تمنع الناس من التفكر. والهدف الرئيسي من ذلك كله تشجيع الناس على التفكر ومساعدتهم على إدراك الغاية من خلقهم وتعظيم قدرة الله وعلمه اللا محدودين.
في الصفحات التي تلي سوف نحاول ان نصوّر بماذا يمكن للإنسان المؤمن بالله أن يتفكرمن خلال ما يمر به من اشياء يومياً، وما هي العبر التي يمكن أن يستخلصها من الأحداث التي يشهدها، وكيف يجب عليه أن يشكر الله ويتقرب اليه عندما يعاين علمه وإبداعه -سبحانه وتعالى- في كل شيء.
بطبيعة الحال ما سنذكره هنا لا يغطي الا قسماً صغيراً من قدرة الإنسان على التفكر، فالإنسان عنده القابلية للتفكر في كل لحظة (ليس في كل ساعة ولا دقيقة ولا ثانية، بل في كل لحظة) من حياته. ومدى قدرته على التفكر واسع لدرجة يستحيل معها وضع حدود أو ضوابط له. والهدف مما سنذكره هو مجرد فتح الأبواب أمام الناس للاستفادة من ملكة التفكيرعندهم كما يجب.
يجب أن تتولد في الذهن القناعة بأن الأشخاص الذين يتفكرون هم وحدهم القادرون على فهم وتقدير مختلف الأمور. وقد ذكر الله في الآيات الكريمة التالية حال أولئك الذين لا يبصرون الأمور الاعجازية من حولهم فلا يستطيعون التفكر فيها، فقال تعالى:?ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً، صمُّ بكمُ عميُ فهم لا يعقلون?]البقرة: 171[ ?... لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون? ]الأعراف:179 [?أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً? ] الفرقان:44[ .
ان الذين يتفكرون يرون آيات الله والجوانب الإعجازية في المخلوقات وفي الأحداث، فيفهمون، وأمثالهم هم القادرون على استخلاص العبر من كل شيء حولهم، كبيراً كان أم صغيراً.
عندما يستيقظ الإنسان في الصباح...
لا يحتاج المرء الى شروط خاصة للبدء بالتفكر، فمن اللحظة التي نستيقظ فيها من النوم، تجد الكثير من الأفكار طريقها الينا، فهناك يوم كامل يمتد أمامنا، قلما نشعر خلاله بالتعب أو النعاس، ونكون على استعداد لمعاودة كل الأمور مرة أخرى. والتفكر بهذا يذكرنا بقوله تعالى:? وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهارنشوراً?]الفرقان:47[.
عندما نغسل وجوهنا أو نستحم نستجمع قوانا ونستعيد رشدنا بشكل كامل، وعندها نصبح على استعداد للتفكر في أشياء مفيدة، فهناك شؤون التفكر فيها أهم بكثير من التفكير ماذا سنتناول كفطور، أو في أي ساعة سنغادر المنزل! فقبل كل شيء كوننا استطعنا أن نستيقظ في الصباح معجزة عظيمة في حد ذاتها، فرغم كوننا فاقدي الوعي كلياً خلال النوم فإننا في الصباح نستعيد وعينا ووجودنا، وتخفق قلوبنا، ونتمكن من التنفس، والكلام والرؤية والمشي.. مع أنه ليس هناك ما يضمن أن هذه النعم ستعود الينا في الصباح، أو اننا لن تصيبنا أي مصيبة خلال الليل. فلربما أدّى شرود أحد الجيران الى تسرب غازي، فيوقظنا حدوث انفجار كبير، أو قد تحدث كارثة في المنطقة التي نعيش فيها نخسر على إثرها أرواحنا..وقد نتعرض لمشاكل أخرى في أجسامنا، فقد نستيقظ مصابين بآلام مبرحة في الكلى، أو الرأس ، ومع ذلك، لم يحدث شيء من هذا واستيقظنا في الصباح آمنين مطمئنين.. التفكر بهذه الأمور يجعلنا نشكر الله على رحمته بنا وحفظه لنا. فاستهلال النهار بصحة جيدة معناه أن الله يعطينا فرصة أخرى لتحقيق المزيد من أجل آخرتنا.
لذلك، فإن أفضل ما نفعله أن نمضي يومنا في مرضاته سبحانه وتعالى، ونجعلها قبل كل شيء، فنخطط لإبقاء أذهاننا مشغولة بمثل ما ذكرناه من أفكار. ونقطة البداية في تحصيل مرضاة الله، سؤله أن يعيننا في أمرنا هذا، ودعاء سيدنا سليمان عليه السلام مثال جيد لكل المؤمنين:?ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين?]النمل:19[.
بماذا تجعلنا بعض معالم جسم الإنسان نتفكّر
ولا يقتصر التفكّر عند النظر في الملرآة على ما ذكرناه، فقد تخطر على بالنا أشياء كثيرة لم نتفكر فيها من قبل، مثل رموش عيوننا وحواجبنا، وكيف أن أسناننا وعظامنا تتوقف عن النمو عندما تصل إلى طول معين فيما يستمر الشعر بالنمو. وبكلمات أخرى كيف أن أعضاء الجسم التي يسبب نموها الزائد مساوئ وقبحا ًتتوقف عن النمو، وتستمر الأخرى التي تضفي على الإنسان جمالاً - كالشعر مثلاً- بالنمو، هذا مع ملاحظة التكامل والتناسق التام في نمو العظام. فلا تنمو الأطراف العليا من الأيدي والأرجل بدون فائدة جاعلة الجسم يبدو دون الحجم بالنسبة لها.. فنمو العظام يتوقف في الوقت المناسب، كما لو أن كل عظمة تعرف المقدار الذي يجب أن تصل إليه.
صحيح أن الأمور التي ذكرناها تحدث كنتيجة لتفاعلات كيميائية معينة في الجسم، ولكن الإنسان الذي ينظر اليهل لا بد أن يتساءل: كيف تحدث هذه التفاعلات الكيميائية، ومن الذي قدر الكميات المحددة للهرمونات في أنزيمات الجسم، لتنظم النمو في جميع أنحائه؟ ومن يضبط كمية إفرازات هذه الهرمونات؟ بدون شك من المستحيل الادعاء أن هذه الأشياء تحدث بمحض الصدفة، ومن المستحيل أيضاً للخلايا التي يتأسس منها جسم الإنسان والذرات غير العاقلة التي تتألف منها الخلايا أن تتخذ مثل هذه القرارات ، لذلك فإن من الواضح أن كل ما ذكرناه هو من إبداع الله تعالى الذي خلقنا في أحسن تقويم.
..في الطريق
مباشرة بعد الاستيقاظ من النوم صباحاً والاستعداد يمضي معظم الناس في شؤونهم فمنهم من يتوجه إلى عمله ومنهم من يذهب إلى المدرسة، ومنهم من يمضي لتسوية بعض الأمور في مكان ما في هذا العالم الرحب. بالنسبة للمؤمن هذه الرحلة القصيرة هي نقطة البداية للقيام بالأعمال الصالحة التي ترضي الله سبحانه وتعالى. فعندما نستيقظ نشكر المولى تعالى الذي وهبنا يوماً آخر نكسب فيه من رزقه، والآن وقد مضينا في أمرنا، فقد بدأت الرحلة التي يمكن أن نكسب من خلالها هذا الرزق وعندما نتفكر في هذا الأمر لا بد أن نذكر قوله تعالى ?وجعلنا النهار معاشا?[النبأ:11]. ووفقاً لهذه الآية يجب علينا أن نخطط كيف سنمضي يومنا في أعمال ذات نفع للعباد ترضي الله سبحانه وتعالى.
وعندما نترك المنزل نمر بشكل تلقائي بالكثير من الأمور التي يجب أن نتفكر فيها، فهناك الآلآف من الناس والسيارات والأشجار الكبيرة والصغيرة، والتفاصيل التي لا تعد ولا تحصى من حولنا، وبالطبع فإن توجهات المؤمن محددة، فسوف نحاول الاستفادة لأقصى الحدود مما نراه حولنا ونتفكر في الأحداث والأسباب. فما يمر بنا من مشاهد إنما يمر بعلم الله وإرادته، ولا بد أن يكون هناك سبب من وراء ذلك فبما أن الله جعلنا نخرج، ووضع هذه المشاهد أمامنا، فلا بد أن فيها ما يجب أن نراه ونتدبره.
وحين نصل إلى سيارتنا أو أي وسيلة نقل أخرى. وفي خلدنا كل هذه الأفكار. نشكر الله مرة أخرى، إذ مهما كانت المسافات طويلة فقد سخر لنا الله وسيلة للوصول، وكما هو معلوم، فقد خلق الله للناس الكثير من الوسائل ليستعينوا بها في السفر. وقدّم التطور التكنلوجي إمكانيات جديدة مثل السيارات والقطارات والطائرات والسفن والمروحيات والحافلات وغيرها. وعند يتدبّر هذا الأمر يتذكر الإنسان أن الله تعالى هو الذي سخّر التكنولوجيا في خدمة البشرية. ففي كل يوم يخرج العلماء باكتشافات واختراعات جديدة تسهل علينا حياتنا، وهميصلون اليها جميعاً بالوسائل التي خلقها الله على الأرض. ومن يتفكر، يتابع رحلته شاكراً المولى تعلى الذي سخر لخدمتنا كل هذه الأمور.
وفيما نمضي في وجهتنا حاملين مثل هذه الأفكار فإن كومة نفايات، أو رائحة كريهة أو أماكن معتمة نمر بها تثير في أذهاننا أفكاراً متعددة.
فقد خلق الله في هذا العالم أماكن ومشاهد تجعلنا قادرين على تصور الجنة والنار، أو التخمين من خلال المقارنة كيف ستكونان. فأكوام النفايات والروائح الكريهة والأماكن الضيقة المعتمة القذرة تسبب كرباً كبيراً لأرواحنا ! ولا أحد يود أن يكون في مثل هذه الأماكن، وكل هذه الخصائص تذكر الإنسان بجهنم، وكل من يلتقي بهذه المشاهد يتذكر الآيات التي تتحدث عن النار: فالله سبحانه وتعالى يصف لنا ظلمة وقذارة وكراهة المشاهد في جهنم.
?وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال. في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم?[الواقعة:41-44].
?وإذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً مقرنين دعوا هنالك ثبورا. لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيرا?[الفرقان:13-14].
وعند تذكر هذه الآيات القرآنية ندعو الله أن يجيرنا من نار جهنم ونسأله أن يغفر لنا ذنوبنا.
ومن زاوية أخرى فإن الإنسان الذي لا يوظف أفكاره بهذه الطريقة سوف يمضي نهاره متذمراً قلقاً، باحثاً عمّا يغضب في كل حدث، فيستشيط
رد: فن التامل
بماذا يجب أن تذكّرنا عربة نقل الموتى
ومن يمضي لشأنه مستعجلاً قد تعترض طريقه فجأه عربة نقل الموتى، وفي هذه الصدفة فرصة للمرء ليلتقط أنفاسه. فهذا المشهد الذي قد يلتقيه سيذكره بحتفه. فيوماً ما هو أيضاً سوف يكون في عربة نقل الموتى. ومهما حاول الانسان تفادي الموت فإنه ملاقيه لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، سواء كان في سريره أو في طريقه أو في إجازة فإنه سوف يغادر هذا العالم قطعاً، فالموت حقيقة لا يمكن تفاديها.
في تلك اللحظة يتذكر الانسان المؤمن الآيات التالية:? كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون? ]العنكبوت: 57-59[ .
وبالطبع فإن تفكرالإنسان أن جسده سوف يوضع في كفن، ويواريه أقاربه الثرى، وأن اسمه وشهرته سوف يحفران على شاهد قبره، يزيل تعلّقه بالدنيا. ومن يفكر بهذه الأمور بإخلاص وصدق يكتشف كم من الحماقة الاستجابة لمتطلبات جسد سوف يفنى في التراب.
في الآيات من سورة العنكبوت يبشر الله عباده الصابرين والمتوكلين عليه بمباهج الجنة بعد الموت، ولهذا عندما يتفكر المؤمنون في أنهم سيموتون في يوم من الأيام، يحاولون العيش مخلصي النية لله ملتزمين حسن الخلق وصالح الأعمال التي أمر الله بها للفوز بالجنة. وكلما تذكروا قرب الأجل تزداد عزيمتهم ويحاولون التخلّق بأسمى القيم والاستزادة منها أكثر فأكثر خلال حياتهم.وعلى العكس منهم فإن الذي يعطون الأولوية لغير هذه الأفكار ويمضون حياتهم في قلق لا طائل تحته، لا يتذكرون أن الموت واقع بهم حتى لو مروا بعربة نقل الموتى أو المقبرة نفسها، وحتى لو توفي أحد أحبائهم.
خلال النهار
في مواجهة كل الأحداث التي يمر بها خلال النهار لا يبرح المؤمن يتفكر في آيات الله محاولاً إيجاد تفسير لدقائق الأمور.
والمؤمن يتلقى كل نعمة أو ابتلاء بالقبول الحسن الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. وليس لاختلاف الأماكن أهمية كبرى عند المؤمن، فهو يتدبر كون الله خالق كل شيء، ويحاول أن يبحث عن الغايات الكامنة وراء ما قدر الله من أحداث وما خلق من محاسن، سواء كان في المدرسة أو العمل أو السوق. فالمؤمن يعيش حياته مهتدياً بآيات الله، وتصرف المؤمنين هذا مستمد من الآيتين التاليتين:
?رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب?[النور:37-38].
بماذا تجعلنا الصعوبات التي تعترضنا نفكر؟
قد يتعرض الإنسان لمختلف الصعوبات في النهار. ولكن مهما كانت هذه الصعوبات عليه أن يضع ثقته بالله ويتذكر أن الله يمتحننا بكل شيء نفعله ونفكر فيه في هذه الحياة الدنيا. وهذه حقيقة مهمة جداً يجب أن لا نغض الطرف عنها ولو للحظات، ولذلك إذا واجهتنا صعوبات فيما نفعله أو فكرنا بأن الأمور لا تسير في وجهتها الصحيحة، لا يجب أن ننسى أبداً أن هذه الأمور قد قدّرت علينا كجزء من امتحاننا، وهذه الأفكار التي تمر في ذهن الانسان تصح على الأمور الأساسية والفرعية التي تعترضنا خلال يومنا، فمثلاً قد نتكلف مبالغ إضافية نتيجة الإهمال أو سوء الفهم، وقد نخسر ملفاً في الكمبيوتر أمضينا ساعات في إعداده نتيجة لانقطاع التيار الكهربائي، وقد يرسب الطالب في امتحان جامعي مع أنه بذل مجهوداً في الدرس وقد يمضي نهارنا ونحن واقفون في صف طويل نظراً لتأخر تقدم عمل ما بسبب الإجراءات البيروقراطية، وقد نخطئ في عملنا نتيجة نقص في الملفات وقد يفوت الإنسان الطائرة أو الحافلة في طريقه إلى مكان من الضروري أن يصل إليه.
وهناك عدد كبير من أمثال هذه الصعوبات أو المشاكل التي قد تعترض- أو انها قطعاً- سوف تعترض الإنسان خلال حياته.
في كل هذه الأحداث الإنسان الذي يحمل الإيمان يجزم بأن الله يبتليه في إيمانه وفي صبره، ومن الحماقة بمكان بالنسبة للإنسان الذي سيموت ويحاسب في الآخرة أن ينجرف في مثل هذه الأحداث وأن يضيع الوقت في القلق بشأنها. فالمؤمن يعلم أن هناك خيراً وراء كل هذه الأحداث. فهو لا يقول واحسرتاه لأي حدث ويسأل الله أن يسهل له أموره ويحسن به الظن في جميع الأمور.
وعندما يتبع اليسر المصاعب ندرك أن هناك استجابة لدعائنا وأن الله سميع مجيب الدعوات. فنشكره سبحانه وتعالى.
وبتمضية النهار ونحن نتفكر في هذه الأفكار لا يفقد الانسان الأمل ولا يقلق ولا يشعر بالأسف أو اليأس مهما مر به.. فنحن نعلم أن الله خلق كل هذه الأمور لخيرنا وان هناك رحمة فيها.وفوق ذلك علينا أن نفكر بهذه الطريقة ليس في الأمور الأساسية التي تقع لنا، وإنما أيضاً في الفاصيل كبيرها وصغيرها التي نقابلها خلال حياتنا اليومية كما ذكرنا من قبل.
فكروا بإنسان لا يستطيع أن يسوي أمراً بالطريقة التي يتمناها أو يتعرض لمشاكل جدية وهو على وشك الوصول إلى هدفه. هذا الشخص يصبح فجأة غاضباً حزيناً ومكروباً وباختصار تتكون لديه جميع أنواع المشاعر السلبية، ولكن من يتذكر بأن هناك خيراً في كل أمر، يحاول البحث عن الغاية الخفية في هذا الحدث الذي أظهره الله.
فقد يفكر بأن الله قد لفت انتباهه كي يحسب لأمره هذا حسابات أدق. فيقول ربما ساعدني ما حصل على تجنب ضرر أعظم.
فمن تفوته الحافلة وهو يحاول الوصول إلى موعد معين قد يفكر أنه ربما قد وقي بتأخره من التعرض لحادث في الحافلة، أو لضرر أكبر من ذلك. وهذه فقط أمثلة قليلة، فقد يفكر الإنسان أيضاً بأن هناك الكثير من الغايات الكامنة وراء تأخره هذا، وهذه الأمثلة قد تتضاعف في حياة الإنسان. والمهم في هذا كله أن مشاريعنا قد لا تحل بالطريقة التي نتمناها. فقد نجد أنفسنا في وضع مختلف تماماً عن الذي خططنا له. وفي مثل هذه الظروف فإن يسلّم ويبحث عن الخير في الأحداث المعينة التي يواجهها يفوز، يقول الله تعالى:
?كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون?[البقرة:216].
فكما يذكر الله تعالى في هذه الآيات، فنحن لا نعلم ولكن الله هو الذي يعلم ما هو خير لنا وما هو شر لنا. ومما يورث الإنسان السكينة أن يتخذ الله اللطيف الرحيم ولياً ويسلم له تمام التسليم.
أمور نتفكر فيها خلال عملنا
من المهم خلال القيام بعمل ما أن لا ندع أذهاننا تفرغ، وأن نفكر دائماً بالخير. فالعقل البشري قادر على القيام بأكثر من عمل في نفس الوقت. فالإنسان الذي يقود سيارته أو ينظف بيته أو يمشي في الشارع يمكنه أيضاً التفكير في أعمال الخير في نفس الوقت، فخلال تنظيف المنزل يشكر الإنسان الله الذي منّ عليه بالوسائل اليومية مثل الماء والمنظفات. ومعرفة أن الله يحب الطهارة والمتطهرين تجعله ينظر إلى الأمر الذي يقوم به كنوع من العبادة نأمل أن تنال رضى الله . بالإضافة إلى ذلك فإنه يسعد فيتأمين مكان مريح لغيره من الناس عبر تنظيف المكان الذي يعيش فيه.
ومن يعمل في وظيفة ما يمكنه دائماً أن يدعو الله في سره فيسأله أن يسهل له عمله، ويفكر بأنه لا يمكن أن ينجح في أي شيء دون إرادة الله. ونرى من خلال القرآن أن الأنبياء الذين هم قدوة لنا كانوا يتوجهون باستمرار إلى الله في سرهم. ويتفكرون في الله خلال عملهم، وواحد من هؤلاء الأنبياء الكرام وهو سيدنا موسى عليه السلام. فبعد مساعدته لامرأتين التقاهما في سقاية قطيعهما توجه إلى الله بالكلمات التالية:
?ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقيرٌ?[القصص:23-24].
مثال آخر نراه في القرآن عن هذا الموضوع هو مثال النبي إبراهيم والنبي إسماعيل عليهما السلام. فالله تعالى يذكر أن هذين النبيين تذكروا المؤمنين بالخير عندما كانا يعملان معاً فتوجها إلى الله تعالى بالدعاء حول عملهما.
?وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم?[البقرة:127-129].
بماذا تجعلنا شبكة العنكبوت نتفكر؟
هناك أشياء كثيرة يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الذي يمضي نهاره في المنزل. فمثلاً، خلال التنظيف قد يرى عنكبوتاً قد نسج شبكته في إحدى زوايا المنزل. ولو أدرك أن عليه التفكر في هذا المخلوق الذي لا يهم أحداً عادة، سوف يرى أن آفاقاً جديدة فتحت له. فهذه الحشرة الصغيرة التي يراها أمامه هي معجزة في التصميم. فهناك تناسق في الشبكة التي ينسجها العنكبوت، وإذا حصل وتسائل كيف يمكن لحشرة صغيرة أن تنجز مثل هذا التصميم الكامل المدهش فأجرى بحثاً سريعاً فسوف يصادف حقائق أخرى استثنائية. فالخيوط التي يستخدمه العنكبون مرنة ثلاثين بالمائة أكثر من خيوط المطاط ذات السماكة نفسها. والخيوط التي ينتجها العنكبوت تضاهي بجودتها العالية الخيوط التي يستخدمها الإنسان في تصنيع البزات الواقية من الرصاص. فعجباً لتلك المادة التي يعتبرها الناس مجرد شبكة عنكبوت بسيطة فيما هي واحدة من أفضل مواد التصنيع في العالم.
ولو استمر الإٌنسان في التفكر بعد أن عاين هذا التصميم المتكامل لإحدى الكائنات الحية من حوله، فإنه سوف يصادف المزيد من الحقائق المدهشة. فلو تفحص الذبابة التي يلتقي بها باستمرار دون أن يعيرها إنتباهه والتي تغضبه فيحاول قتلها، سوف يرى أن لديها عادة تنظيف نفسها بشكل تفصيلي متقن. فالذبابة تحط بشكل متكرر في أماكن مختلفة لتنظيف أطرافها الأمامية والخلفية كل على حدة، ثم تمسح بعناية الغبار عن جناحيها ورأسها عبر أطرافها الأمامية والخلفية، وتستمر بهذه العملية حتى تتأكد من نظافتها. وكل أنواع الذباب والحشرات تنظيف نفسها بطريقة مشابهة وبنفس الانتباه والدقة والتفصيل. وهذا يدل على أن الله المتفرد في الخلق هو الذي علمها كيف تنظف نفسها.
والذبابة نفسها تخفق بجناحيها خلال الطيران خمسمائة مرة في الثانية تقريباً. وفي الواقع ليس هناك آلة من صنع الإنسان تستطيع أن تعمل بمثل هذه السرعة لأنها سوف تتحطم وتحترق نتيجة الاحتكاك. في حين أن عضلات الذبابة ومفاصلها وأجنحتها لا تتأذى.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار اتجاه وسرعة الريح . فإن الذبابة تستطيع الطيران في اي اتجاه دون أن تنحرف، في حين أنه حتى مع وجود التكنولوجيا الحالية، فإن الإنسان بعيد عن إنتاج اختراع يتمتع بهذه الميزات غير العادية ، وبتقنيات طيران مثل هذه. ومن الواضح أن الذبابة لا تفعل كل ذلك بفضل قدرتها وذكائها، فالله هو الذي أعطى الذبابة هذه الخصائص والقدرات الرائعة.
وفي كل مكان نلمحه حولنا هناك حياة مرئية وأخرى غير مرئية إذ ليس هناك سنتمتر مربع على الأرض لا حياة فيه، فالبشر والنباتات والحيوانات مخلوقات يمكن للإنسان أن يراها، ولكن هناك أيضاً مخلوقات لا يمكنه رؤيتها ولكنه على دراية بوجودها، فعلى سبيل المثال، البيوت التي نعيش فيها مليئة بمخلوقات مجهرية تسمى "العث" وفي الهواء الذي نستنشقه عدد لا يحصى من الفيروسات، وكمية البكتيريا التي تعيش في تربة حديقتنا كبيرة بشكل مدهش، ومن يتفكر في كل هذا التنوع المدهش الذي تزخر به الحياة على الأرض، يتذكر النظام المتكامل لجميع المخلوقات. فكل واحد من المخلوقات التي نراها علامة على إبداع الله، تماماً كما تكمن في المخلوقات المجهرية معجزاته العظيمة. فلكل من الفيروسات والبكتيريا والعث غير المرئية بالنسبة لنا، آليات جسدية خاصة، فقد خلق الله لها بيئتها وجعل لها أنظمة في التغذية، وأجهزة تناسل وأنظمة مناعة، ومن يتدبر هذه الأمور يتذكر الآية التالية:
بماذا يجعلنا المرض نفكر؟
الإنسان مخلوق يتميز بالكثير من نقاط الضعف، وعليه أن يبذل مجهوداً مستمراً لمعالجة نقائصه. والمرض يكشف بشكل واضح ضعف الإنسان، لذلك عندما نمرض أو يمرض أحد أصدقائنا يجب علينا التفكير في الغايات الكامنة في المرض.
وعندما نتفكر نجد أنه حتى الزكام الذي يعتبر مرضاً بسيطاً يعطينا دروساً وتحذيرات. فعندما نلتقط مثل هذا المرض نفكر فيما يلي: أولاً المسبب الرئيس للزكام هو فيروس دقيق جداً غير مرئي بالعين المجردة، ومع ذلك فإن هذا الكائن الصغير كافٍ لإفقاد رجل يتراوح وزنه بين 60 و 70 كيلو غراماً قوته، وجعله مرهقاً لدرجة تمنعه من المشي أو الكلام، ومعظم الأحيان لا تجدي الأدوية أو الأطعمة التي نتناولها نفعاً، وكل ما نستطيعه هو أخذ قسط من الراحة والانتظار. داخل الجسد تدور رحى حرب لا يمكننا التدخل فيها، فنحن مقيدو الأيدي والأرجل من قبل كائن حي دقيق. وفي مثل هذا الوضع يجدر بنا أن نتذكر الآيات القرآنية وما فيها من الكلمات قالها نبي الله إبراهيم عليه السلام:
?والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين?[الشعراء:79-83].
وعلى الإنسان الذي يصاب بأي نوع من الأمراض أن يقارن بين تصرفه عندما كان في صحة جيدة وتصرفة خلال مرضه ويتفكر في الأمر. وعليه أن يتذكر حاله المتواضع أثناء مرضه وكيف أدرك بقوة كم هو بحاجة إلى الله تعالى، وكم دعا ربه مخلصاً عندما كان متوجهاً لإجراء عملية جراحية مثلاً..
وعندما نعاين مرض أحد غيرنا علينا فوراً أن نشكر الله عندما نتذكر صحتنا الجيدة، فعندما يرى المؤمن إنساناً برجل عرجاء عليه أن يتذكر كم أن رجليه نعمتان أساسيتان ومهمتان بالنسبة له: فيفهم أن كونه قادراً على المشي إلى أي مكان يريده، حالما يستيقظ في الصباح وكونه قادراً على الركض عند الضرورة، وقدرته على الاعتناء بنفسه دون حاجته إلى أحد، بحد ذاتها فضائل عظيمة من الله تعالى، وعندما يتفكر ويقارن، يتفهم أكثر قيمة ما منح من نِعم.
بماذا يتفكر الإنسان عندما يقابل شخصاً متعجرفا،ً مددللاً، مزعجاً، سيء الطبع؟
خلال النهار، سواء كنا في المكتب أو المدرسة، يصادف المرء أنواعاً مختلفة من الناس، وقد لا يكون كل هؤلاء الناس من ذوي الطباع الحسنة وممن يخافون الله. والمؤمن الذي يقابل مثل هؤلاء الأشخاص لا يتأثر بهم بل يظل متمسكاً بالسلوك الذي أمر الله به، فهو يعلم أن ميزة سوء الخلق عند هؤلاء الأشخاص سببها افتقارهم إلى الايمان بالله، وعدم تصديقهم بالآخرة. فيخطر على باله ما يلي: يحذر الله سبحانه وتعالى الناس من كرب الجحيم، ويسألهم أن يفكروا في العذاب الذي لا نهاية له وأن يحسنوا أخلاقهم في الحياة الدنيا ويتواضعوا لله ويلتزموا بالدين بإخلاص. ولو أدرك الإنسان أنه في مواجهة تهديد خطير كهذا، فإنه بالتأكيد سوف يأخذ احتياطاته لتجنبه. ولكن أولئك الذين لا يتفكرون في الأمر ولا يستوعبون خطورته يتصرفون وكأنه لا نار ولا عذاب يعدّان لهم.
ومن يكون على دراية بهذه الحقائق يتذكر اموراً أخرى مهمة جداً، فعند الانتظار على شفير نار جهنم، تتغير أخلاق كل واحد من هؤلاء الناس بشكل كامل . فإذا قبض يوم الفصل على من كان لا يتردد اليوم في إظهار أخلاق ملؤها الدلال والوقاحة ٍوالتعجرف، خالية من كل إيمان بالله ثم أحضر وسيق أمام حفرة الجحيم وسحب على الأرض وتعرض لخزي مستمر، فإن تعابير وجهه وتصرفاته وطريقة كلامه والألفاظ التي يستعملها لن تكون هي نفسها التي كانت من قبل. وإذا سيق الكافر المتغطرس العنيف الذي ارتكب الجرائم ولم يعد لديه أي مظهر من مظاهر الإنسانية إلى شفير نار جهنم فإنه سوف يحس بالندم الأبدي عندما يعاين عذابها.
ومن يختلق كل أنواع الأعذار ليبرر عدم التزامه بالدين وعدم عبادته لله في الحياة الدنيا لن يكون قادراً على اختلاق نفس الأعذار عندما ينتظر على مشارف جهنم. في ذلك الوقت لن تكون التوبة ممكنة حتى لو أراد الكافر أن يفي بها ولن تكون الدعوات مستجابة رغم أن الكافر يجدّ حينها في الدعاء.
إن من يخاف الله لا ينسى هذه الأمور البتة فيتفكر في نار جهنم وبفضل تفكره يدرك ما هي التصرفات الحقيقية وما هي الكلمات الصحيحة وما هي الأخلاق الحميدة. وبما أن عنده إيمان قوي بوجود جهنم فإنه يتفكر فيها باستمرار، ويتصرف دائماً وكأنه قريب من نارها، ولا يني يتفكر بأنه سوف يدعى للمحاسبة عن كل ما قام به.
والله يدعو الناس للتفكر في النار وفي يوم الفصل.
?يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد?[آل عمران:30].
خلال تناول الطعام
?الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً وصوّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين?[غافر:64].
لقد وهب الله الناس في هذه الحياة ألواناً من الطعام والشراب مختلفة، صافية، لذيذة،... وكل هذه الأطعمة والأشربة مظاهر لفضل الله الذي لا ينتهي ورحمته بالعباد، فالناس يستطيعون أن يعيشوا بخير على لون واحد من الطعام والشراب ولكن الله تعالى وهبهم نعماً لا تحصى من الخضار والفاكهة، وأنواع مختلفة من اللحوم وغيرها..
والمؤمن الذي يعرف أن كل هذه النعم من الله تعالى يتفكر فيها ويشكر الله في كل مرة يجلس فيها لتناول وجبة طعام.
بماذا تجعلنا الفاكهة التي تقدم خلال وجبة الطعام نتفكر؟
في آيات كثيرة من القرآن، يذكر الله تعلى أنه أنعم على الناس بأنواع كثيرة من الطعام وهذه الأطعمة تكون موجودة أمام أي شخص يجلس لتناول وجبة. فطاولة الطعام تمتلئ بمختلف أنواع الخضروات المزروعة، والعديد من المنتجات الحيوانية، والإنسان بطبيعته مفطولر على حب التمتع بهذه الأطعمة، فكل واحد منها ألذ من الآخر، وهي في نفس الوقت ضرورية للبقاء على قيد الحياة، فلتتفكر فيما لو أن هذه الأطعمة المغذية والضرورية للبقاء على قيد الحياة كانت بدون نكهة أو كان طعمها رديئاً. أو لو كانت مضرة بالرغم من طعمها الطيب، أو لو كان هناك عدد قليل من الأطعمة نتغذى بها فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.. ان رحمة الله هي السبب الوحيد الذي امام أطعمة بهذا الشكل الذي نشاهده على المائدة وليس امام طعام وشراب غير ذي نكهة.
حتى لو فكر الإنسان بالفاكهة وحدها سوف يدرك النعم العظيمة التي تظهر لنا. والإنسان الحي الضمير الذي يرى أنواعاً كثيرة من الفاكهة على طاولة الطعام سيفكر فيما يلي:
" بأنه من قلب تراب داكن تنبت فاكهة بألون متعددة وشذى متنوع، ومحتويات نظيفة تماماً وكل واحد منها له طعم طيب. وهذا فضل عظيم منحه الله للناس.
" وبأن الموز والتنغرين والبرتقال والبطيخ بنوعيه الأصفر والأحمر، وغيرها من الفواكه كلها مخلوقة في أغلفتها الخاصة بها، فقشرتها تحميها من التلف والفناء. وتحفظ لها شذاها، فبعد فترة قصيرة من تقشيرها تتحول الفاكهة إلى اللون الأسود وتفسد.
" عند تفحصها واحدة واحدة يظهر أن كل نوع من أنواع الفاكهة له ميزة دقيقة. فالبرتقال والتنغرين مثلاً مقطعة. لأنها لو كانت قطعة واحدة لكان من الصعب تناول مثل هذه الفاكهة الكثيرة العصارة. لكن الله تعالى قد شكلها على هيئة شرائح من أجل راحة الناس. ومما لا جدال فيه أن هذا التصميم الرائع الخالي من النقائص الذي يلبي حاجاتنا آية من خلق الله العليم سبحانه وتعالى.
" والفراولة على سبيل المثال، فاكهة مميزة جداً بطعمها وشكلها. فبالأشكال التي عليها تبدو وكأنها صممت تصميماً فائق الدقة، وبلونها الأحمر المنعش المتوّج بأوراق خضراء تشكل الفراولة واحدة من أسمى آيات الإبداع الرباني.. وحلاوة شذاها وطعمها ولكونها خالية من البذور الكبيرة ولا قشرة لها مما يسهل أكلها، فإنها تذكر الإنسان بفاكهة الجنة وفي كونها تنبت بمعظم أجزائها في التراب ثم يكون لها هذا اللون الجميل الملفت، دلالة عظيمة من الله تعالى الذي خلقها فأظهر إبداعه وحكمته وعلمه فيما خلق.
" ووجود أنواع مختلفة من الفاكهة في كل موسم موضوع آخر حري أن نتفكر فيه ففضل ونعمة من الله للناس أنه في فصل الشتاء الذي يكون الناس فيه بأمس الحاجة إلى فيتامين ج توجد فاكهة الغنية بهذا الفيتامين مثل التنغرين والبرتقال والغريب_فروت فيما تتوفر في الصيف أنواع الفواكه التي تطفئ العطش مثل البطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر، والدراق والكرز.
وقد أهدانا الله سبحانه وتعالى تلك الصورة الخلابة للفاكهة على أغصانها أو حيثما زرعت. فمنظر المئات من حبات الفاكهة على غصن جاف أشبه بالعظمة وهي مربوطة اليه بإحكام ومملوءة بالعصارة من داخلها، وما يظهر منها وكأنه جرى تلميعه بشكل خاص دليل آخر أن كل واحد من أنواعها قد خلقها الله . فعلى سبيل المثال عناقيد العنب تبدو وكأنها قد وضعت على أغصان الدوالي واحدة واحدة. والله تعالى قد خلق كل واحدة منها بشكل فريد وشكّل لها مظهراً على الأغصان يجعلها تروق للناس. ولهذا السبب خلال وصف الجنة في القرآن يذكر الله أن الفاكهة فيها تكون جاهزة للقطاف، وذلك في قوله تعالى: ?ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا?[الإنسان:14].
وبالطبع ما ذكر هنا هو غيض من فيض، فنعم الله أكثر من أن تحصى، ومن يدرك ذلك على مائدة الطعام يتذكر آية كريمة أخرى:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم?[النحل:17-18].
بماذا تجعلنا الروائح والنكهات نتفكر؟
وإذا استمرّينا في التفكر، نصل الى إدراك المحاسن والدقائق في خلق الله أكثر. وخلال التأمل ملياً في هذه الأمور فإن الانسان الحي الضمير يعي أيضاً أن كونه قادراً على على استمداد المتعة مما أنعمه الله عليه فضل كبير من الله سبحانه وتعالى، ويتذكر أن حاستي الشم والتذوق تساعداننا على الإحاطة بالكثير من الجمال الكائن في هذه الدنيا. فيستمر الانسان بالتفكير:لو لم يكن لدينا حاسة الشم لما استطعنا أن نستمتع بالورود والفواكه والمشاوي كما نستمتع الآن. ولو لم يكن لدينا حاسة التذوق لما تعرّفنا على الطعم الفريد للشوكولا والحلوى واللحوم والفراولة وغيرها من النعم.
يجب ألايغيب عن بالنا أنه لو لم يتفضل الله سبحانه وتعالى علينا بكل هذه النعم لكنّا الآن نعيش في عالم ليس فيه لون أو طعم أو رائحة. ولولا فضله سبحانه وتعالى علينا لما استطعنا اكتساب أي من هذه النعم بأي حال من الأحوال. ولكن الله تعالى قد أنعم على الناس فخلق النكهات والروائح، تماماً كما خلق لنا الجهاز العصبي كي نحيط بها.
خلال التنزه في الحديقة..
بماذا تجعلنا مظاهرالجمال التي نراها في الطبيعة نتفكر؟
إن من يؤمن بالله يسبّحه على ما يراه من جمال في الطبيعة، فهو على علم ودراية بأن الله هو خالق كل ما يوجد من جمال، وأن كل هذه المحاسن هي ملك لله، وتجلّيات لما يختص به سبحانه وتعالى من جمال.
خلال التنزه في الطبيعة، يصادف الإنسان المزيد من الجمال، فمن القشة إلى الأقحوان الأصفر، ومن الطيور إلى النمل.. كل شيء مفعم بالتفاصيل التي تحتاج إلى التفكير فيها. وحينما يتفكر الناس فيها يصلون إلى فهم قوة وقدرة الله.
فالفراشات مثلاً ذات جمال بديع جداً، فبأجنحتها المتساوقة وتصاميمها المزكرشة بتماثل تام وكأنها مرسومة باليد وألوانها الفوسفورية، تشكل الفراشات دليلاً على إبداع الله وقدرته العظيمة على الخلق.
وبشكل مماثل فإن النباتات التي لا تعد ولا تحصى، وأنواع الأشجار على الأرض هي من المحاسن التي خلقها الله، وقد خلق الله الأزهار بألوانها والأشجار بأشكالها المختلفة كي تضفي على حياة الإنسان بهجة كبيرة.
والمؤمن يتفكر كيف أن الورود والأزهار، مثل البنفسج والأقحوان والزنبق والقرنفل والأوركيد ناعمة الملمس تنبت من بذورها ملساء تماماً دون تجاعيد وكأنها مكوية!
ومن العجائب الأخرى التي خلقها الله تعالى شذى هذه الأزهار، فالوردة مثلاً لها عبير قوي دائم التجدد، ورغم أحدث التطورات التكنلوجية لم يستطع العلماء أن يصنعوا رائحة تضاهي تماماً عبير الورود، فالأبحاث المخبرية التي تحاول تقليد هذا العبير لم تثمر عن نتائج مرضية .
فبشكل عام فالعطور التي صنعت أساساً برائحة الورود حادة ومزعجة في حين أن رائحة الوردة الأصلية لا تزعج!
ومن يؤمن بالله يعلم أن كلاً من هذه النباتات خلق له ليُسَبِّح الله، وليبرز له إبداع الله وعلمه في ما خلقه سبحانه وتعالى منجمال ، ولذلك فإن من يرى هذا الجمال حينما يتنزه في الحديقة يمجد الله فيقول ?ما شاء الله ولا قوة إلا بالله?[الكهف:39]. ويتذكر أن الله قد سخر هذا الجمال لخدمة الإنسان وأنه سوف يمنح المؤمنين نعماً ممتازة لا تقارن في الآخرة فيزداد حبه لله تعالى.
هل تفكرت يوماً في نملة رأيتها خلال تنزهك في الحديقة؟
الناس بشكل عام لا يدركون أي معنى للتفكير في الكائنات الحية التي يرونها في محيطهم. ولا يتخيّلون ان هذه الكائنات الحية التي يصادفونها كل يوم لها ميزات مثيرة للاهتمام. أما بالنسبة للمؤمن فإن كل كائن حي خلقه الله يحمل آثار الكمال في خلقه، والنمل بعض هذه المخلوقات.
فالمؤمن الذي لا يعمي عينه عن النمل الذي يراه حين يتنزه في الحديقة يشهد الكمال في خلق الله من خلال رؤيته لميزاتها المدهشة.
فحتى مشاهدة تحركات النملة تستحث العقل فهي تحرك أرجلها المتناهية الدقة بأسلوب متتال منتظم إلى أبعد حد، فهي تعرف تمام المعرفة أي رجل يجب أن تقوم بالخطوة الأولى وأيها تقوم بالخطوة التالية، وتتحرك بسرعة دون ترنّح.
وهذه الحشرة الصغيرة ترفع فتاتاً أكبر بكثير من جسمها، وتحمله إلى وكرها بقلبها وروحها، وتسافر مسافات طويلة بالمقارنة مع جسمها الضئيل.
وبكل سهولة تستطيع أن تجد وكرها في الأرض التي لا معالم تميزها دون أن يكون هناك مرشد في خدمتها. ورغم أن مدخل الوكر صغير لدرجة لا نستطيع معها نحن أنفسنا أن نجده، لا تختلط عليها الأمورفتجده أينما كان.
عندما يرى الإنسان هذه النملات في الحديقة وهي مصطفة في خط الواحدة تلو الأخرى، تكدح بحماس لتحمل الطعام إلى وكرها لا يمكنه التوقف عن التساؤل عن طبيعة هذا التصميم على العمل بكد الذي تملكه هذه الحشرات الصغيرة جداً،.
ثم يدرك الإنسان أن النملة لا تحمل الطعام لنفسها فقط ولكن أيضاً لأعضاء أخر في المستعمرة، للملكة، ولصغار النمل.
وما يحتاج الإنسان أن يتفكر به هو كيف يمكن لهذه الحشرة الصغيرة جداً التي لا تمتلك دماغاً متطوراً أن تعرف الاجتهاد والنظام والتضحية بالنفس. وبعد التأمل ملياً بهذه الحقائق يصل الإنسان إلى الخلاصة التالية: النمل مثله مثل باقي الكائنات الحية تعمل بإلهام من الله، ولا تأتمر الا بأمره سبحانه وتعالى.
بماذا تجعلنا التحركات "المدركة" لنبتة اللبلاب نتفكر؟
والمؤمن عندما يتنزه في الحديقة، يتفكر أيضاً بنتة اللبلاب (نبتة متعرشة) التي يصادفها، وهي من أجمل ما خلق الله تعالى. فبالنسبة لمن يتفكر هناك دائماً آيات يتعلمها من كل شيء حي.
فعلى سبيل المثال، في لف نبتة اللبلاب نفسها حول غصن ما أو أي شيء، أمر يحتاج الإنسان للتفكر فيه بدقة. ولو أن مراحل نمو هذه النبتة صوّرت، ثم أعيد عرض الشريط بسرعة لرأينا أن هذه النبتة تتحرك كما لو أنها كائن مدرك. فكأنها ترى أن هناك غصناً أمامها فتمد نفسها باتجاهه وتوثقه إليه وكأنها تحكم الخناق حوله. وأحياناً تلتف حول الغصن عدة مرات لتثبت نفسها، ثم تنمو بسرعة بهذه الطريقة، وتنشيء لنفسها طريقاً جديداً أما بالعودة أو التقدم إلى الأسفل عندما يصل ممرها إلى نهايته.
والمؤمن الذي يشهد كل هذه الأمور يدرك مرة أخرى أن الله سبحانه وتعالى خلق كل الكائنات الحية بأنظمة فريدة خالية من الخلل.
وفيما يستمر المرء بمراقبة تحركات نبتة اللبلاب فإنه يشهد معلماً آخر مهماً من معالم هذه النبتة، حيث يرى أن هذه النبتة تلصق نفسها بإحكام بالسطح الذي تتموقع عليه عبر تمديد أذرع إلى جوانبه، كما تفرز هذه النبتة "غير المدركة" مادة دبقة قوية لدرجة قد تنزع الدهان عن الحائط إذا حاول الإنسان إزالتها.
وجود مثل هذه النبتة يظهر للمؤمن الذي يتفكر في هذه الأمور القدرة الكلية لله خالقها.
بماذا تجعلنا الأشجار نتفكر؟
نشاهد الأشجار في كل يوم وكل مكان، ولكن مع ذلك هل تفكرتم يوماً كيف يصل الماء إلى أبعد ورقة في أعلى غصن في الشجرة الباسقة؟
يمكننا أن نمتلك فهماً أفضل للطبيعة غير العادية لهذا الأمر عن طريق المقارنة. فمن المستحيل أن يرتفع الماء من الخزان الكائن في قبو المبنى الذي نسكن فيه، إلى الطوابق الأعلى دون محرك دفع مائي، أو غيره من المحركات القوية. إذ لا يمكن حتى ضخ المياه إلى الطابق الأول ، وهذا يعني أنه يجب أن يكون هناك نظام ضخ في الأشجار شبيه بمحرك الدفع المائي، وإلا إذا لم يستطيع الماء الوصول إلى جذع الشجرة وأغصانها فإن الشجرة تموت سريعاً. لقد خلق الله كل شجرة مزودة بكل المعدات الضرورية، وعلاوة على ذلك فإن نظام الدفع المائي في الكثير من الأشجار أرفع من أن يقارن بذلك الموجود في المباني التي نعيش فيها؛ وما ذكرناه واحد من الموضوعات التي يتفكر فيها من ينظر إلى كل الأشياء بعين البصيرة، عندما يشاهد النباتات.
وهناك موضوع آخر له علاقة بأوراق الأشجار. فمن يتفكر في الأشياء التي يشاهدها، لا يعتبر، حين ينظر إلى الأشجار، أوراقها أشكالاً عادية ألف مشاهدتها. فهو يتفكر في أمورمختلفة لا تخطر لمعظم الناس، فمثلاً، مع أن أوراق الأشجار رقيقة جداً، فإنها لا تجف بفعل الحر الشديد، ولو أن إنساناً بقي في الخارج ولو لوقت قصير في حرارة تبلغ أربعين درجة مئوية، فإن لو جلده يتغير، ويعاني من الجفاف، في حين تستطيع أوراق الأشجار أن تبقى خضراء لأيام وحتى شهور في الحر الشديد دون أن تحترق، على الرغم من ضآلة كميات المياه التي تجري في أوعيتها الشبيهة بالخيوط؛ وهذه معجزة في الخلق تبين أن الله خلق كل شيء بعلم منقطع النظير. وبالتفكر في معجزة الخلق هذه يرى المؤمن عظمة الله ويذكره سبحانه وتعالى.
خلال قراءة الجريدة أو مشاهدة التلفاز..
يتابع الناس الأخبار في الجريدة اليومية وعبر التلفاز أما خلال النهار أو حين يعودون إلى بيتهم في المساء. وفي هذه التقارير الكثير من القضايا التي يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الحي الضمير ويأخذ حذره منها ويرى فيها آيات الله.
بماذا يجعلنا تكرر قضايا العنف والسرقة والجريمة نتفكر؟
في كل يوم على الصفحات المحلية للأخبار في الجرائد والنشرات الأخبارية، تطالعنا تقارير عديدة عن القتل والجرح، واللصوصية والسرقات والسلب والانتحار. وتكرر وقوع هذه الأحداث والعدد الكبير للأشخاص الميالين جداً إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم يشير إلى الضرر الذي يعاني منه الناس الذين لا يؤمنون بالله. فخطف شخص ما لطفل صغير من أجل الفدية مسبباً له خوفاً عظيماً، أو حتى قتله، وتصويب شخص أخر مسدساً في وجه رجل وقتله، دون تردد، وقبول ثالث الرشوة، أو القيام بسلب الأموال أو الانتحار.. كلها تشير إلى أن هؤلاء الأشخاص لا يخافون الله ولا يؤمنون بالآخرة. فمن يخاف الله ويعرف أنه سيحاسب في الآخرة لا يفعل هذه الأمور أبداً. كل هذه الأفعال عقوبتها في الآخرة نار جهنم إذا لم يتب عنها مرتبكها وإذا لم يسامحه الله ويرحمه.
وقد يقول أحدهم:"أنا ملحد لا أؤمن بالله ومع ذلك فأنا لا أقبل الرشوة". ولكن هذا التعبير من إنسان لا يؤمن بالله غير مقنع أبداً. فمن المحتمل جداً أن يخل هذا الشخص بوعده إذا تبدلت الظروف، فعلى سبيل المثال إذا اضطر هذا الإنسان إلى إيجاد المال لسبب طارئ، وصودف أن كان في وضع فيه فرصة للسرقة أو قبول الرشوة، فمن غير المتوقع أن يكون عند كلمته عندما تكون حياته على المحك. ومع أن هذا الشخص قد يتجنب قبض الرشوة في الظروف الصعبة، فإنه قد يميل إلى ارتكاب غيرها من المحظورات، أما المؤمن فلا يقوم بأي عمل لا يستطيع أن يتحمل عاقبته في الآخرة.
إذاً، فإن سبب هذه الأحداث التي تجعلنا من المعترضين بأصواتنا في الجرائد والتلفزيونات وفي حياتنا الاجتماعية، وتدفعنا إلى أن نصرخ بقوة: "ماذا حصل لهذا المجتمع" هو في الحقيقة، قلة التدين. والمؤمن الذي يرى هذه التقارير لا يعمي عينيه عنها بل يفكر بأن الحل الوحيد بالتحدث بدعوة الناس الى الدين، وإحياء قيمه.. ففي المجتمع الذي يتكون من أناس يخافون الله ويعلمون أنهم سيحاسبون في الآخرة من المستحيل لهذه الأحداث أن تقع بهذه الدرجة التي تقع فيها في أوقاتنا هذه. ففي مثل هذا المجتمع سوف يعيش الناس في أعلى درجات الأمن والسلام.
بماذا تجعلنا برامج النقاش التي تستمر حتىالصباح نتفكر؟
تشكل برامج النقاش التي تذاع على التلفاز مادة أخرى للتفكر فيها لمن يتابع التفكر في الأمور من حوله.
وبرامج النقاش هذه تستضيف الأشخاص الأكثر إلماماً بموضوع الساعة والأكثر علماً به. فيناقش هؤلاء موضوعاً ما لساعات من غير أن يكون أحد منهم قادراً على إيجاد حل أو الوصول إلى استنتاج ما، مع أن هؤلاء الذين يشاركون في هذه البرامج يعتبرون مؤهلين لحل هذه القضايا.
وبالفعل، فإن حلول معظم هذه القضايا واضح بما فيه الكفاية ومع ذلك فإن مصالح الناس الشخصية، وبقاؤهم تحت تأثير نفوذهم الحالي وسعيهم لإظهار انفسهم بدل البحث بإخلاص عن الحلول يوصلهم إلى مأزق وطريق مسدود.
والإنسان الحي الضمير الذي يشهد كل هذايجزم بأن سبب هذه الأحداث يكمن في بعد المجتمع عن دين الله، فمن يؤمن بالله لا يظهر منه أي تصرف أخرق، لا مسؤول أو فارغ. فهو يعلم أن هناك خيراً في كل حادث يعرّضه الله له، وأنه في امتحان دائم في هذه الحياة، وعليه أن يستخدم رشده وعلمه وقوته بطريقة ترضي الله.
بالإضافة إلى ذلك، عندما يشاهد المؤمن هذه البرامج يتذكر قوله تعالى: ?...وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا?[الكهف:54].
ان وجود مثل هذه البرنامج يكشف عن طبيعة الناس المولعة بالجدل والخصام. وهذا ما يؤدي بهم في معظم الأوقات إلى الفشل في فهم المطلوب، فهوسهم بما سيقولون، ومحاولتهم قوله أولاً، ومقاطعتهم بعضهم بعضاً ورفعهم أصواتهم بسهولة وانفعالهم الشديد بلمحة، ومباشرتهم بكيل الشتائم لبعضهم، تكشف بوضوح الجوانب السلبية لذوي الثقافات الرفيعة ظاهرياً الذين ينقصهم الإيمان بالله.
بمشاركة أشخاص مخلصين وصادقين مائة بالمائة، ممن يخافون الله لا يمكن لهذه المناقشات المطولة وغير المثمرة أن تحدث،ف بما أن الهدف هو إيجاد الحلول الأكثر إرضاءً لله ومنفعة للناس، فإن أفضل أساليب التفكير وأكثرها ضميرية،توضع وتطبق دون تضييع الوقت، وبما أن ضمير الكل سوف يرتاح بالوصول إلى النتيجة النهائية فإن الخصام والجدل لن يقعا.
وإذا كان هناك لأي واحد اعتراض مبني على أسباب معقولة تظهر طريقة أفضل في الحل فإن اقتراحه يطبق مباشرة، وخلافاً لغيرهم، فإن من يؤمنون بالله لا يظهرون تصرفات عنيدة ومتعجرفة؟ وعندما يتذكرون قوله تعالى ?... وفوق كل ذي علم عليم?[يوسف:76]، يطبقون أفضل الخيارات التي يقدرون عليها.
هذه النقاشات التي تستمر حتى الصباح دون الوصول إلى أي حل تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار لأنها تظهر ما يمكن أن يحدث في البيئات التي لا تعيش قيم وأخلاق الدين الرفيعة.
بماذا يجعلنا الفقر والمجاعة في كل زاوية من زوايا العالم نتفكر؟
عدم العدل بين الناس من القضايا التي تتداول باستمرار في وسائل الإعلام، ففيما هنالك في أحد جوانب العالم بلدان مزدهرة بشكل ملحوظ تتمتع بدرجات عالية من الرفاهية، هناك في الجانب المقابل أناس لا يجدون ما يأكلونه وليس لديهم دواء لعلاج حتى أبسط الأمراض و يتكرر وقوع الموت في صفوفهم بسبب الإهمال. أول ما يكشفه هذا الوضع هو النظام الجائر السائد في العالم. من السهل جداً على البلدان الغنية إنقاذ هؤلاء الناس، فعلى سبيل المثال، قرب الأمم التي تموت من الجوع في أفريقيا هناك مجتمعات كدست الثروات من مناجم الماس، وبالتالي أنشأت "مدنية" متقدمة. ورغم أنه من السهل جداً إعادة إسكان هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في الفقر قريبين من المجاعة متروكين عرضة للموت ، أو تأمين الموارد التي تتوافق مع احتياجاتهم، في المناطق التي يعيشون فيه،ا فإنه لعقود من الزمن لم يتم البحث عن حلول أساسية لمشكلتهم؛ ومع أن مساعدتهم ليست مهمة يستطيع عدد قليل من الناس القيام بها، إلا أنه من أجل إيجاد حل نحتاج الى الكثير من التضحية بالنفس، وذلك فإن عدد الأشخاص الذين يمكن الادعاء بأنهم ينكبون على محاولة حل مثل هذه المشكلة قليل جداً.
تريليونات من الدولارات تبدد في كل جزء من العالم لأسباب مختلفة، حتى ان بعض الناس يرمون طعامهم لأن كمية الملح التي فيه لم تعجبهم، فيما يموت غيرهم لأنه غير قادر على إيجاد كمية كافية من الطعام ليأكلها وفي هذا دليل واضح ضد نظام عالمي جائر سببه عدم تطبيق قيم الدين على الأرض.
ومن يرى كل هذا يجزم بأن الشيء الوحيد الذي يزيل هذا الجور هو الالتزام بأوامر الله، فالناس الذين يخافون الله ويتصرفون بما تمليه عليهم ضمائرهم لا يمكن أن يسمحوا بمثل هذا الظلم والجور. وسوف يساعدون المعوزين بحلول محدودة وسريعة وطويلة الأمد، دون أن يسمحوا بأي نوع من أنواع التفاخر، وإذا اقتضت الضرورة يستثمرون جميع الإمكانيات الموجودة في العالم.
ويخبرنا الله في القرآن الكريم أن مساعدة الفقراء والمعوزين هي من صفات الأشخاص الذين يخافون الله واليوم الآخر ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا?[الإنسان:8-10]. وعدم إطعام الفقراء من صفات الأشخاص الكافرين الذين لا يخافون الله ?خذوه فغلّوه. ثم الجحيم صلّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون?[الحاقة:30-37].
بماذا تجعلنا الكوارث التي تحدث حول العالم نتفكر؟
بعض التقارير التي يصادفها الناس باستمرار في الجرائد والتلفزيونات تتعلق بالكوارث، فالناس قد يتعرضون للكوارث في أي وقت. فقد تحدث هزة أرضية قوية، وقد يشب حريق وقد يحدث فيضان، ومن يرى هذه التقارير يتذكر أن الله قادر على كل شيء فباستطاعته أن يسوي مدينة ما بالأرض إذا أراد، وبالتفكر في هذا الأمر يدرك الإنسان أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مغيث إلا هو، فحتى أقوى المباني والمدن المجهزة بأحدث وسائل التكنلوجيا لا تستطيع أن تقف في وجه قوة الله فهي الأخرى قد تفنى في لحظات.
وكل هذه المشاهد هي من أجل أن يتفكر فيها الإنسان ويعتبر، ومن يسمع تقارير الكوارث يفكر أيضاً بأن الله قد أنزل الكارثة على مدينة ما لسبب معين. ففي القرآن الكريم يذكر الله تبارك وتعالى أنه ينزل العقاب بالأمم العاصية تنبيهاً لهم أو جزاءً على أفعالهم، ومن ثم فإن سبب حدوث الكوارث إما أن يكون تطبيق مجتمع ما لقيم تغضب الله، فيعاقبهم على ذلك أو امتحاناً للناس ببعض الشدة في هذه الدنيا.
وبالتفكر في هذه الإمكانيات يخاف المؤمن أن تقع به هذه الكوارث فيستغفر الله سبحانه وتعالى على أعماله.
لا يمكن لأي شخص أو أمة أن تتفادى وقوع أي كارثة إلا إذا أراد الله. ولا فرق في ذلك بين أغنى وأقوى المدن وأي مكان آخر عادي يعتبر قليل المخاطر بسبب موقعه الجغرافي، فالله تعالى يقول انه ليس هناك أمة تستطيع تفادي الكارثة عندما تحل بها.
?أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أ وأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون? [الأعراف:97-100]
موضوع آخر يتداول به باستمرار في الأنباء هو التراجع الاقتصادي؛ وتحديداً هناك عدد من المواد الاخبارية السلبية تنشر عن الربا يومياً. ومن يقرأ هذه التقارير التي تذكر أن الربا أصبح خارجاً عن السيطرة وسبباً للنكماش الاقتصادي يدرك أن الله يضعف أرباح الناس جزاء على تبني مثل هذا الصنيع المحرّم والبغيض_اي الربا. وكما تذكر الآية الكريمة:? يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كلّ خوّان أثيم? ] البقرة:276[ فإن الله سبحانه وتعالى يزيل الأرباح المحققة عن طريق الربا ويقلل الانتاجية. هذه الحقائق مذكورة أيضاً في آية أخرى على الشكل التالي:? وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون?] الروم:39[.
ومن يتفكر في هذه التقارير يرى فيها هي أيضاً مثالاً على ما تبينه آيات القرآن الكريم للناس.
التفكر في الأماكن الجميلة
ومن الممكن أيضاً أن نرى في البرامج التلفزيونية وفي المجلات والصحف الجمال الذي خلقه الله ونتفكّر فيه. فمشاهدة أو زيارة مكان ذي منظر خلاب مثل بيت جميل أو حديقة أو شاطىء بحري يمتع الجميع بالتأكيد. فقبل كل شيء هذه المشاهد تذكرنا بالجنة، ومن خلال مشاهدتها يتذكر المؤمن مرة أخرى أن الله الذي ينعم علينا بهذه النعم ويرينا هذا الجمال الباهر سوف يخلق في أماكن لا تضاهى جمالاً في الجنة.
ومن يرى هذه المشاهد يتفكّر بالتالي أيضاً: كل جمال خلق في هذه الحياة الدنيا فيه العديد من النقائص والعيوب لأن الحياة الدنيا دار اختبار. ومن يمضي بعض الوقت في أحد المنتجعات التي كان قد شاهدها قبل ذلك في التلفاز يلاحظ هذه العيوب. فشدة رطوبة الطقس وملوحة مياه البحر المزعجة والحر المحرق والبعوض أمثلة على ذلك. بالإضافة الى ذلك فإن الكثير من الصعوبات الدنيوية قد تحدث مثل حروق الشمس، مشاكل وكالة السفر التنظيمية، والطبيعة العصبية للأشخاص الذين يشاركهم المكان.
أما في الجنة فإن منابع كل هذا الجمال ستكون هناك. ولن يكون هناك أي شيء مزعج، ولن ينعقد أي حديث غير مرضٍ. ففي كل جمال يقابله المؤمن في هذه الحياة الدنيا يزداد توقه الى الجنة، ويشكر الله دائماً على نعمه التي أنعمها عليه في هذه الحياة، ويستمتع بالتفكير بأن منابع هذه الأمور الجميلة توجد في الجنة، ولا ينسى هذا أبداً بالانجراف بمفاتن الحياة الدنيا، فيعيش حياته بالطرق التي تنتهي به الى امتلاك الجمال الأبدي، وتجعله أهلاً لدخول الجنة.
بماذا نتفكّر عندما نقرأ في المجلات العلمية أن حجر بناء المادة هو الذرة؟
ما لم يتفكر الانسان بالأشياء التي يعرفها، فإنه لن يستطيع أن يدرك دقائقها، ولا أن يفهم ماهية هذا المحيط الاستثنائي الذي يعيش فيه.
ولهذا الاعتبار فإن المؤمن يتفكر باستمرار في الأحداث والكائنات الحية التي خلقها الله، ومع أن هذه الأمور قد تكون معروفة لدى الكثير من الناس، إلا أن المؤمن من خلال تفكّره فيها يكون قادراً على استخلاص نتائج مختلفة عما يصل اليه الآخرون.
فعلى سبيل المثال من المعروف حيداً أن المكوّن الأساس لكل ما في الكون من كائنات حية وجماد هو الذرّة. فكل الناس يعلمون أن الكتاب الذي يقرأون فيه والكنبة التي يجلسون عليها والماء الذي يشسربونه وكل الأشياء التي يرونها حولهم مكوّنة من ذرّات. ولكن فقط ذوي الضمائر الحيّة يفكرون أبعد من ذلك ويشهدون على قوة الله العظيمة.
فعندما يرى مثل هؤلاء الأشخاص تقارير حول هذا الموضوع يفكرون بالتالي: الذرات مخلوقات جامدة فكيف يمكن لمادة جامدة أن تتجمع لتكوّن إنساناً متحركاً قادراً على الرؤية والسمع وتفسير ما يسمعه والاستمتاع بالموسيقى التي يسمعها والتفكير واتخاذ القرارات، والحزن والفرح؟ وكيف يقدر الانسان على اكتساب مثل هذه السمات التي تميّزه عن غيره مما يتكوّن من الذرات؟
بالتأكيد ان الذرات الجامدة غير المدركة لا يمكن أن تعطي الانسان هذه الخصائص. فمن الواضح أن الله هو الذي خلق الانسان بروح قد وهبت كل هذه الخصائص، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى:? الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سوّاه فنفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون?]السجدة:7-9[
بعض الحقائق التي يصل إليها الإنسان عبر التفكر العميق
هل تفكرت يوماً في كون كل شيء مسخّر للإنسان وحده؟
عندما يبحث المؤمن في كل ما في الكون من أنظمة وكل ما فيه من كائنات حيّة وجماد بعينٍ يقظة، يرى أنها كلها مسخّرة للإنسان، ويفهم أنه ليس في الوجود شيء جاء بمحض الصدفة، بل خلق الله كل شيء بإتقان لخدمة الإنسان.
فمثلاً يتنفس الإنسان كل الوقت دون بذل جهد، فالهواء الذي يستنشقه لا يحرق مجرى تنفسه ولا يصيبه الدوار ولا يسبب له أوجاعاً في الرأس، فنسب الغازات في الهواء ملائمة لجسم الإنسان. ومن يتفكر في هذه الأمور يتذكر نقطة أخرى هامة جداً، فلو كان تركز الأوكسيجين في الهواء أكثر قليلاً أو أقل قليلاً فما هو عليه لاختفت الحياة ف
ومن يمضي لشأنه مستعجلاً قد تعترض طريقه فجأه عربة نقل الموتى، وفي هذه الصدفة فرصة للمرء ليلتقط أنفاسه. فهذا المشهد الذي قد يلتقيه سيذكره بحتفه. فيوماً ما هو أيضاً سوف يكون في عربة نقل الموتى. ومهما حاول الانسان تفادي الموت فإنه ملاقيه لا محالة، عاجلاً أم آجلاً، سواء كان في سريره أو في طريقه أو في إجازة فإنه سوف يغادر هذا العالم قطعاً، فالموت حقيقة لا يمكن تفاديها.
في تلك اللحظة يتذكر الانسان المؤمن الآيات التالية:? كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون? ]العنكبوت: 57-59[ .
وبالطبع فإن تفكرالإنسان أن جسده سوف يوضع في كفن، ويواريه أقاربه الثرى، وأن اسمه وشهرته سوف يحفران على شاهد قبره، يزيل تعلّقه بالدنيا. ومن يفكر بهذه الأمور بإخلاص وصدق يكتشف كم من الحماقة الاستجابة لمتطلبات جسد سوف يفنى في التراب.
في الآيات من سورة العنكبوت يبشر الله عباده الصابرين والمتوكلين عليه بمباهج الجنة بعد الموت، ولهذا عندما يتفكر المؤمنون في أنهم سيموتون في يوم من الأيام، يحاولون العيش مخلصي النية لله ملتزمين حسن الخلق وصالح الأعمال التي أمر الله بها للفوز بالجنة. وكلما تذكروا قرب الأجل تزداد عزيمتهم ويحاولون التخلّق بأسمى القيم والاستزادة منها أكثر فأكثر خلال حياتهم.وعلى العكس منهم فإن الذي يعطون الأولوية لغير هذه الأفكار ويمضون حياتهم في قلق لا طائل تحته، لا يتذكرون أن الموت واقع بهم حتى لو مروا بعربة نقل الموتى أو المقبرة نفسها، وحتى لو توفي أحد أحبائهم.
خلال النهار
في مواجهة كل الأحداث التي يمر بها خلال النهار لا يبرح المؤمن يتفكر في آيات الله محاولاً إيجاد تفسير لدقائق الأمور.
والمؤمن يتلقى كل نعمة أو ابتلاء بالقبول الحسن الذي يرضي الله سبحانه وتعالى. وليس لاختلاف الأماكن أهمية كبرى عند المؤمن، فهو يتدبر كون الله خالق كل شيء، ويحاول أن يبحث عن الغايات الكامنة وراء ما قدر الله من أحداث وما خلق من محاسن، سواء كان في المدرسة أو العمل أو السوق. فالمؤمن يعيش حياته مهتدياً بآيات الله، وتصرف المؤمنين هذا مستمد من الآيتين التاليتين:
?رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار. ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب?[النور:37-38].
بماذا تجعلنا الصعوبات التي تعترضنا نفكر؟
قد يتعرض الإنسان لمختلف الصعوبات في النهار. ولكن مهما كانت هذه الصعوبات عليه أن يضع ثقته بالله ويتذكر أن الله يمتحننا بكل شيء نفعله ونفكر فيه في هذه الحياة الدنيا. وهذه حقيقة مهمة جداً يجب أن لا نغض الطرف عنها ولو للحظات، ولذلك إذا واجهتنا صعوبات فيما نفعله أو فكرنا بأن الأمور لا تسير في وجهتها الصحيحة، لا يجب أن ننسى أبداً أن هذه الأمور قد قدّرت علينا كجزء من امتحاننا، وهذه الأفكار التي تمر في ذهن الانسان تصح على الأمور الأساسية والفرعية التي تعترضنا خلال يومنا، فمثلاً قد نتكلف مبالغ إضافية نتيجة الإهمال أو سوء الفهم، وقد نخسر ملفاً في الكمبيوتر أمضينا ساعات في إعداده نتيجة لانقطاع التيار الكهربائي، وقد يرسب الطالب في امتحان جامعي مع أنه بذل مجهوداً في الدرس وقد يمضي نهارنا ونحن واقفون في صف طويل نظراً لتأخر تقدم عمل ما بسبب الإجراءات البيروقراطية، وقد نخطئ في عملنا نتيجة نقص في الملفات وقد يفوت الإنسان الطائرة أو الحافلة في طريقه إلى مكان من الضروري أن يصل إليه.
وهناك عدد كبير من أمثال هذه الصعوبات أو المشاكل التي قد تعترض- أو انها قطعاً- سوف تعترض الإنسان خلال حياته.
في كل هذه الأحداث الإنسان الذي يحمل الإيمان يجزم بأن الله يبتليه في إيمانه وفي صبره، ومن الحماقة بمكان بالنسبة للإنسان الذي سيموت ويحاسب في الآخرة أن ينجرف في مثل هذه الأحداث وأن يضيع الوقت في القلق بشأنها. فالمؤمن يعلم أن هناك خيراً وراء كل هذه الأحداث. فهو لا يقول واحسرتاه لأي حدث ويسأل الله أن يسهل له أموره ويحسن به الظن في جميع الأمور.
وعندما يتبع اليسر المصاعب ندرك أن هناك استجابة لدعائنا وأن الله سميع مجيب الدعوات. فنشكره سبحانه وتعالى.
وبتمضية النهار ونحن نتفكر في هذه الأفكار لا يفقد الانسان الأمل ولا يقلق ولا يشعر بالأسف أو اليأس مهما مر به.. فنحن نعلم أن الله خلق كل هذه الأمور لخيرنا وان هناك رحمة فيها.وفوق ذلك علينا أن نفكر بهذه الطريقة ليس في الأمور الأساسية التي تقع لنا، وإنما أيضاً في الفاصيل كبيرها وصغيرها التي نقابلها خلال حياتنا اليومية كما ذكرنا من قبل.
فكروا بإنسان لا يستطيع أن يسوي أمراً بالطريقة التي يتمناها أو يتعرض لمشاكل جدية وهو على وشك الوصول إلى هدفه. هذا الشخص يصبح فجأة غاضباً حزيناً ومكروباً وباختصار تتكون لديه جميع أنواع المشاعر السلبية، ولكن من يتذكر بأن هناك خيراً في كل أمر، يحاول البحث عن الغاية الخفية في هذا الحدث الذي أظهره الله.
فقد يفكر بأن الله قد لفت انتباهه كي يحسب لأمره هذا حسابات أدق. فيقول ربما ساعدني ما حصل على تجنب ضرر أعظم.
فمن تفوته الحافلة وهو يحاول الوصول إلى موعد معين قد يفكر أنه ربما قد وقي بتأخره من التعرض لحادث في الحافلة، أو لضرر أكبر من ذلك. وهذه فقط أمثلة قليلة، فقد يفكر الإنسان أيضاً بأن هناك الكثير من الغايات الكامنة وراء تأخره هذا، وهذه الأمثلة قد تتضاعف في حياة الإنسان. والمهم في هذا كله أن مشاريعنا قد لا تحل بالطريقة التي نتمناها. فقد نجد أنفسنا في وضع مختلف تماماً عن الذي خططنا له. وفي مثل هذه الظروف فإن يسلّم ويبحث عن الخير في الأحداث المعينة التي يواجهها يفوز، يقول الله تعالى:
?كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون?[البقرة:216].
فكما يذكر الله تعالى في هذه الآيات، فنحن لا نعلم ولكن الله هو الذي يعلم ما هو خير لنا وما هو شر لنا. ومما يورث الإنسان السكينة أن يتخذ الله اللطيف الرحيم ولياً ويسلم له تمام التسليم.
أمور نتفكر فيها خلال عملنا
من المهم خلال القيام بعمل ما أن لا ندع أذهاننا تفرغ، وأن نفكر دائماً بالخير. فالعقل البشري قادر على القيام بأكثر من عمل في نفس الوقت. فالإنسان الذي يقود سيارته أو ينظف بيته أو يمشي في الشارع يمكنه أيضاً التفكير في أعمال الخير في نفس الوقت، فخلال تنظيف المنزل يشكر الإنسان الله الذي منّ عليه بالوسائل اليومية مثل الماء والمنظفات. ومعرفة أن الله يحب الطهارة والمتطهرين تجعله ينظر إلى الأمر الذي يقوم به كنوع من العبادة نأمل أن تنال رضى الله . بالإضافة إلى ذلك فإنه يسعد فيتأمين مكان مريح لغيره من الناس عبر تنظيف المكان الذي يعيش فيه.
ومن يعمل في وظيفة ما يمكنه دائماً أن يدعو الله في سره فيسأله أن يسهل له عمله، ويفكر بأنه لا يمكن أن ينجح في أي شيء دون إرادة الله. ونرى من خلال القرآن أن الأنبياء الذين هم قدوة لنا كانوا يتوجهون باستمرار إلى الله في سرهم. ويتفكرون في الله خلال عملهم، وواحد من هؤلاء الأنبياء الكرام وهو سيدنا موسى عليه السلام. فبعد مساعدته لامرأتين التقاهما في سقاية قطيعهما توجه إلى الله بالكلمات التالية:
?ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير. فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقيرٌ?[القصص:23-24].
مثال آخر نراه في القرآن عن هذا الموضوع هو مثال النبي إبراهيم والنبي إسماعيل عليهما السلام. فالله تعالى يذكر أن هذين النبيين تذكروا المؤمنين بالخير عندما كانا يعملان معاً فتوجها إلى الله تعالى بالدعاء حول عملهما.
?وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم?[البقرة:127-129].
بماذا تجعلنا شبكة العنكبوت نتفكر؟
هناك أشياء كثيرة يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الذي يمضي نهاره في المنزل. فمثلاً، خلال التنظيف قد يرى عنكبوتاً قد نسج شبكته في إحدى زوايا المنزل. ولو أدرك أن عليه التفكر في هذا المخلوق الذي لا يهم أحداً عادة، سوف يرى أن آفاقاً جديدة فتحت له. فهذه الحشرة الصغيرة التي يراها أمامه هي معجزة في التصميم. فهناك تناسق في الشبكة التي ينسجها العنكبوت، وإذا حصل وتسائل كيف يمكن لحشرة صغيرة أن تنجز مثل هذا التصميم الكامل المدهش فأجرى بحثاً سريعاً فسوف يصادف حقائق أخرى استثنائية. فالخيوط التي يستخدمه العنكبون مرنة ثلاثين بالمائة أكثر من خيوط المطاط ذات السماكة نفسها. والخيوط التي ينتجها العنكبوت تضاهي بجودتها العالية الخيوط التي يستخدمها الإنسان في تصنيع البزات الواقية من الرصاص. فعجباً لتلك المادة التي يعتبرها الناس مجرد شبكة عنكبوت بسيطة فيما هي واحدة من أفضل مواد التصنيع في العالم.
ولو استمر الإٌنسان في التفكر بعد أن عاين هذا التصميم المتكامل لإحدى الكائنات الحية من حوله، فإنه سوف يصادف المزيد من الحقائق المدهشة. فلو تفحص الذبابة التي يلتقي بها باستمرار دون أن يعيرها إنتباهه والتي تغضبه فيحاول قتلها، سوف يرى أن لديها عادة تنظيف نفسها بشكل تفصيلي متقن. فالذبابة تحط بشكل متكرر في أماكن مختلفة لتنظيف أطرافها الأمامية والخلفية كل على حدة، ثم تمسح بعناية الغبار عن جناحيها ورأسها عبر أطرافها الأمامية والخلفية، وتستمر بهذه العملية حتى تتأكد من نظافتها. وكل أنواع الذباب والحشرات تنظيف نفسها بطريقة مشابهة وبنفس الانتباه والدقة والتفصيل. وهذا يدل على أن الله المتفرد في الخلق هو الذي علمها كيف تنظف نفسها.
والذبابة نفسها تخفق بجناحيها خلال الطيران خمسمائة مرة في الثانية تقريباً. وفي الواقع ليس هناك آلة من صنع الإنسان تستطيع أن تعمل بمثل هذه السرعة لأنها سوف تتحطم وتحترق نتيجة الاحتكاك. في حين أن عضلات الذبابة ومفاصلها وأجنحتها لا تتأذى.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار اتجاه وسرعة الريح . فإن الذبابة تستطيع الطيران في اي اتجاه دون أن تنحرف، في حين أنه حتى مع وجود التكنولوجيا الحالية، فإن الإنسان بعيد عن إنتاج اختراع يتمتع بهذه الميزات غير العادية ، وبتقنيات طيران مثل هذه. ومن الواضح أن الذبابة لا تفعل كل ذلك بفضل قدرتها وذكائها، فالله هو الذي أعطى الذبابة هذه الخصائص والقدرات الرائعة.
وفي كل مكان نلمحه حولنا هناك حياة مرئية وأخرى غير مرئية إذ ليس هناك سنتمتر مربع على الأرض لا حياة فيه، فالبشر والنباتات والحيوانات مخلوقات يمكن للإنسان أن يراها، ولكن هناك أيضاً مخلوقات لا يمكنه رؤيتها ولكنه على دراية بوجودها، فعلى سبيل المثال، البيوت التي نعيش فيها مليئة بمخلوقات مجهرية تسمى "العث" وفي الهواء الذي نستنشقه عدد لا يحصى من الفيروسات، وكمية البكتيريا التي تعيش في تربة حديقتنا كبيرة بشكل مدهش، ومن يتفكر في كل هذا التنوع المدهش الذي تزخر به الحياة على الأرض، يتذكر النظام المتكامل لجميع المخلوقات. فكل واحد من المخلوقات التي نراها علامة على إبداع الله، تماماً كما تكمن في المخلوقات المجهرية معجزاته العظيمة. فلكل من الفيروسات والبكتيريا والعث غير المرئية بالنسبة لنا، آليات جسدية خاصة، فقد خلق الله لها بيئتها وجعل لها أنظمة في التغذية، وأجهزة تناسل وأنظمة مناعة، ومن يتدبر هذه الأمور يتذكر الآية التالية:
بماذا يجعلنا المرض نفكر؟
الإنسان مخلوق يتميز بالكثير من نقاط الضعف، وعليه أن يبذل مجهوداً مستمراً لمعالجة نقائصه. والمرض يكشف بشكل واضح ضعف الإنسان، لذلك عندما نمرض أو يمرض أحد أصدقائنا يجب علينا التفكير في الغايات الكامنة في المرض.
وعندما نتفكر نجد أنه حتى الزكام الذي يعتبر مرضاً بسيطاً يعطينا دروساً وتحذيرات. فعندما نلتقط مثل هذا المرض نفكر فيما يلي: أولاً المسبب الرئيس للزكام هو فيروس دقيق جداً غير مرئي بالعين المجردة، ومع ذلك فإن هذا الكائن الصغير كافٍ لإفقاد رجل يتراوح وزنه بين 60 و 70 كيلو غراماً قوته، وجعله مرهقاً لدرجة تمنعه من المشي أو الكلام، ومعظم الأحيان لا تجدي الأدوية أو الأطعمة التي نتناولها نفعاً، وكل ما نستطيعه هو أخذ قسط من الراحة والانتظار. داخل الجسد تدور رحى حرب لا يمكننا التدخل فيها، فنحن مقيدو الأيدي والأرجل من قبل كائن حي دقيق. وفي مثل هذا الوضع يجدر بنا أن نتذكر الآيات القرآنية وما فيها من الكلمات قالها نبي الله إبراهيم عليه السلام:
?والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين. رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين?[الشعراء:79-83].
وعلى الإنسان الذي يصاب بأي نوع من الأمراض أن يقارن بين تصرفه عندما كان في صحة جيدة وتصرفة خلال مرضه ويتفكر في الأمر. وعليه أن يتذكر حاله المتواضع أثناء مرضه وكيف أدرك بقوة كم هو بحاجة إلى الله تعالى، وكم دعا ربه مخلصاً عندما كان متوجهاً لإجراء عملية جراحية مثلاً..
وعندما نعاين مرض أحد غيرنا علينا فوراً أن نشكر الله عندما نتذكر صحتنا الجيدة، فعندما يرى المؤمن إنساناً برجل عرجاء عليه أن يتذكر كم أن رجليه نعمتان أساسيتان ومهمتان بالنسبة له: فيفهم أن كونه قادراً على المشي إلى أي مكان يريده، حالما يستيقظ في الصباح وكونه قادراً على الركض عند الضرورة، وقدرته على الاعتناء بنفسه دون حاجته إلى أحد، بحد ذاتها فضائل عظيمة من الله تعالى، وعندما يتفكر ويقارن، يتفهم أكثر قيمة ما منح من نِعم.
بماذا يتفكر الإنسان عندما يقابل شخصاً متعجرفا،ً مددللاً، مزعجاً، سيء الطبع؟
خلال النهار، سواء كنا في المكتب أو المدرسة، يصادف المرء أنواعاً مختلفة من الناس، وقد لا يكون كل هؤلاء الناس من ذوي الطباع الحسنة وممن يخافون الله. والمؤمن الذي يقابل مثل هؤلاء الأشخاص لا يتأثر بهم بل يظل متمسكاً بالسلوك الذي أمر الله به، فهو يعلم أن ميزة سوء الخلق عند هؤلاء الأشخاص سببها افتقارهم إلى الايمان بالله، وعدم تصديقهم بالآخرة. فيخطر على باله ما يلي: يحذر الله سبحانه وتعالى الناس من كرب الجحيم، ويسألهم أن يفكروا في العذاب الذي لا نهاية له وأن يحسنوا أخلاقهم في الحياة الدنيا ويتواضعوا لله ويلتزموا بالدين بإخلاص. ولو أدرك الإنسان أنه في مواجهة تهديد خطير كهذا، فإنه بالتأكيد سوف يأخذ احتياطاته لتجنبه. ولكن أولئك الذين لا يتفكرون في الأمر ولا يستوعبون خطورته يتصرفون وكأنه لا نار ولا عذاب يعدّان لهم.
ومن يكون على دراية بهذه الحقائق يتذكر اموراً أخرى مهمة جداً، فعند الانتظار على شفير نار جهنم، تتغير أخلاق كل واحد من هؤلاء الناس بشكل كامل . فإذا قبض يوم الفصل على من كان لا يتردد اليوم في إظهار أخلاق ملؤها الدلال والوقاحة ٍوالتعجرف، خالية من كل إيمان بالله ثم أحضر وسيق أمام حفرة الجحيم وسحب على الأرض وتعرض لخزي مستمر، فإن تعابير وجهه وتصرفاته وطريقة كلامه والألفاظ التي يستعملها لن تكون هي نفسها التي كانت من قبل. وإذا سيق الكافر المتغطرس العنيف الذي ارتكب الجرائم ولم يعد لديه أي مظهر من مظاهر الإنسانية إلى شفير نار جهنم فإنه سوف يحس بالندم الأبدي عندما يعاين عذابها.
ومن يختلق كل أنواع الأعذار ليبرر عدم التزامه بالدين وعدم عبادته لله في الحياة الدنيا لن يكون قادراً على اختلاق نفس الأعذار عندما ينتظر على مشارف جهنم. في ذلك الوقت لن تكون التوبة ممكنة حتى لو أراد الكافر أن يفي بها ولن تكون الدعوات مستجابة رغم أن الكافر يجدّ حينها في الدعاء.
إن من يخاف الله لا ينسى هذه الأمور البتة فيتفكر في نار جهنم وبفضل تفكره يدرك ما هي التصرفات الحقيقية وما هي الكلمات الصحيحة وما هي الأخلاق الحميدة. وبما أن عنده إيمان قوي بوجود جهنم فإنه يتفكر فيها باستمرار، ويتصرف دائماً وكأنه قريب من نارها، ولا يني يتفكر بأنه سوف يدعى للمحاسبة عن كل ما قام به.
والله يدعو الناس للتفكر في النار وفي يوم الفصل.
?يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد?[آل عمران:30].
خلال تناول الطعام
?الله الذي جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناءً وصوّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين?[غافر:64].
لقد وهب الله الناس في هذه الحياة ألواناً من الطعام والشراب مختلفة، صافية، لذيذة،... وكل هذه الأطعمة والأشربة مظاهر لفضل الله الذي لا ينتهي ورحمته بالعباد، فالناس يستطيعون أن يعيشوا بخير على لون واحد من الطعام والشراب ولكن الله تعالى وهبهم نعماً لا تحصى من الخضار والفاكهة، وأنواع مختلفة من اللحوم وغيرها..
والمؤمن الذي يعرف أن كل هذه النعم من الله تعالى يتفكر فيها ويشكر الله في كل مرة يجلس فيها لتناول وجبة طعام.
بماذا تجعلنا الفاكهة التي تقدم خلال وجبة الطعام نتفكر؟
في آيات كثيرة من القرآن، يذكر الله تعلى أنه أنعم على الناس بأنواع كثيرة من الطعام وهذه الأطعمة تكون موجودة أمام أي شخص يجلس لتناول وجبة. فطاولة الطعام تمتلئ بمختلف أنواع الخضروات المزروعة، والعديد من المنتجات الحيوانية، والإنسان بطبيعته مفطولر على حب التمتع بهذه الأطعمة، فكل واحد منها ألذ من الآخر، وهي في نفس الوقت ضرورية للبقاء على قيد الحياة، فلتتفكر فيما لو أن هذه الأطعمة المغذية والضرورية للبقاء على قيد الحياة كانت بدون نكهة أو كان طعمها رديئاً. أو لو كانت مضرة بالرغم من طعمها الطيب، أو لو كان هناك عدد قليل من الأطعمة نتغذى بها فقط من أجل البقاء على قيد الحياة.. ان رحمة الله هي السبب الوحيد الذي امام أطعمة بهذا الشكل الذي نشاهده على المائدة وليس امام طعام وشراب غير ذي نكهة.
حتى لو فكر الإنسان بالفاكهة وحدها سوف يدرك النعم العظيمة التي تظهر لنا. والإنسان الحي الضمير الذي يرى أنواعاً كثيرة من الفاكهة على طاولة الطعام سيفكر فيما يلي:
" بأنه من قلب تراب داكن تنبت فاكهة بألون متعددة وشذى متنوع، ومحتويات نظيفة تماماً وكل واحد منها له طعم طيب. وهذا فضل عظيم منحه الله للناس.
" وبأن الموز والتنغرين والبرتقال والبطيخ بنوعيه الأصفر والأحمر، وغيرها من الفواكه كلها مخلوقة في أغلفتها الخاصة بها، فقشرتها تحميها من التلف والفناء. وتحفظ لها شذاها، فبعد فترة قصيرة من تقشيرها تتحول الفاكهة إلى اللون الأسود وتفسد.
" عند تفحصها واحدة واحدة يظهر أن كل نوع من أنواع الفاكهة له ميزة دقيقة. فالبرتقال والتنغرين مثلاً مقطعة. لأنها لو كانت قطعة واحدة لكان من الصعب تناول مثل هذه الفاكهة الكثيرة العصارة. لكن الله تعالى قد شكلها على هيئة شرائح من أجل راحة الناس. ومما لا جدال فيه أن هذا التصميم الرائع الخالي من النقائص الذي يلبي حاجاتنا آية من خلق الله العليم سبحانه وتعالى.
" والفراولة على سبيل المثال، فاكهة مميزة جداً بطعمها وشكلها. فبالأشكال التي عليها تبدو وكأنها صممت تصميماً فائق الدقة، وبلونها الأحمر المنعش المتوّج بأوراق خضراء تشكل الفراولة واحدة من أسمى آيات الإبداع الرباني.. وحلاوة شذاها وطعمها ولكونها خالية من البذور الكبيرة ولا قشرة لها مما يسهل أكلها، فإنها تذكر الإنسان بفاكهة الجنة وفي كونها تنبت بمعظم أجزائها في التراب ثم يكون لها هذا اللون الجميل الملفت، دلالة عظيمة من الله تعالى الذي خلقها فأظهر إبداعه وحكمته وعلمه فيما خلق.
" ووجود أنواع مختلفة من الفاكهة في كل موسم موضوع آخر حري أن نتفكر فيه ففضل ونعمة من الله للناس أنه في فصل الشتاء الذي يكون الناس فيه بأمس الحاجة إلى فيتامين ج توجد فاكهة الغنية بهذا الفيتامين مثل التنغرين والبرتقال والغريب_فروت فيما تتوفر في الصيف أنواع الفواكه التي تطفئ العطش مثل البطيخ بنوعيه الأحمر والأصفر، والدراق والكرز.
وقد أهدانا الله سبحانه وتعالى تلك الصورة الخلابة للفاكهة على أغصانها أو حيثما زرعت. فمنظر المئات من حبات الفاكهة على غصن جاف أشبه بالعظمة وهي مربوطة اليه بإحكام ومملوءة بالعصارة من داخلها، وما يظهر منها وكأنه جرى تلميعه بشكل خاص دليل آخر أن كل واحد من أنواعها قد خلقها الله . فعلى سبيل المثال عناقيد العنب تبدو وكأنها قد وضعت على أغصان الدوالي واحدة واحدة. والله تعالى قد خلق كل واحدة منها بشكل فريد وشكّل لها مظهراً على الأغصان يجعلها تروق للناس. ولهذا السبب خلال وصف الجنة في القرآن يذكر الله أن الفاكهة فيها تكون جاهزة للقطاف، وذلك في قوله تعالى: ?ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا?[الإنسان:14].
وبالطبع ما ذكر هنا هو غيض من فيض، فنعم الله أكثر من أن تحصى، ومن يدرك ذلك على مائدة الطعام يتذكر آية كريمة أخرى:?أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون. وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم?[النحل:17-18].
بماذا تجعلنا الروائح والنكهات نتفكر؟
وإذا استمرّينا في التفكر، نصل الى إدراك المحاسن والدقائق في خلق الله أكثر. وخلال التأمل ملياً في هذه الأمور فإن الانسان الحي الضمير يعي أيضاً أن كونه قادراً على على استمداد المتعة مما أنعمه الله عليه فضل كبير من الله سبحانه وتعالى، ويتذكر أن حاستي الشم والتذوق تساعداننا على الإحاطة بالكثير من الجمال الكائن في هذه الدنيا. فيستمر الانسان بالتفكير:لو لم يكن لدينا حاسة الشم لما استطعنا أن نستمتع بالورود والفواكه والمشاوي كما نستمتع الآن. ولو لم يكن لدينا حاسة التذوق لما تعرّفنا على الطعم الفريد للشوكولا والحلوى واللحوم والفراولة وغيرها من النعم.
يجب ألايغيب عن بالنا أنه لو لم يتفضل الله سبحانه وتعالى علينا بكل هذه النعم لكنّا الآن نعيش في عالم ليس فيه لون أو طعم أو رائحة. ولولا فضله سبحانه وتعالى علينا لما استطعنا اكتساب أي من هذه النعم بأي حال من الأحوال. ولكن الله تعالى قد أنعم على الناس فخلق النكهات والروائح، تماماً كما خلق لنا الجهاز العصبي كي نحيط بها.
خلال التنزه في الحديقة..
بماذا تجعلنا مظاهرالجمال التي نراها في الطبيعة نتفكر؟
إن من يؤمن بالله يسبّحه على ما يراه من جمال في الطبيعة، فهو على علم ودراية بأن الله هو خالق كل ما يوجد من جمال، وأن كل هذه المحاسن هي ملك لله، وتجلّيات لما يختص به سبحانه وتعالى من جمال.
خلال التنزه في الطبيعة، يصادف الإنسان المزيد من الجمال، فمن القشة إلى الأقحوان الأصفر، ومن الطيور إلى النمل.. كل شيء مفعم بالتفاصيل التي تحتاج إلى التفكير فيها. وحينما يتفكر الناس فيها يصلون إلى فهم قوة وقدرة الله.
فالفراشات مثلاً ذات جمال بديع جداً، فبأجنحتها المتساوقة وتصاميمها المزكرشة بتماثل تام وكأنها مرسومة باليد وألوانها الفوسفورية، تشكل الفراشات دليلاً على إبداع الله وقدرته العظيمة على الخلق.
وبشكل مماثل فإن النباتات التي لا تعد ولا تحصى، وأنواع الأشجار على الأرض هي من المحاسن التي خلقها الله، وقد خلق الله الأزهار بألوانها والأشجار بأشكالها المختلفة كي تضفي على حياة الإنسان بهجة كبيرة.
والمؤمن يتفكر كيف أن الورود والأزهار، مثل البنفسج والأقحوان والزنبق والقرنفل والأوركيد ناعمة الملمس تنبت من بذورها ملساء تماماً دون تجاعيد وكأنها مكوية!
ومن العجائب الأخرى التي خلقها الله تعالى شذى هذه الأزهار، فالوردة مثلاً لها عبير قوي دائم التجدد، ورغم أحدث التطورات التكنلوجية لم يستطع العلماء أن يصنعوا رائحة تضاهي تماماً عبير الورود، فالأبحاث المخبرية التي تحاول تقليد هذا العبير لم تثمر عن نتائج مرضية .
فبشكل عام فالعطور التي صنعت أساساً برائحة الورود حادة ومزعجة في حين أن رائحة الوردة الأصلية لا تزعج!
ومن يؤمن بالله يعلم أن كلاً من هذه النباتات خلق له ليُسَبِّح الله، وليبرز له إبداع الله وعلمه في ما خلقه سبحانه وتعالى منجمال ، ولذلك فإن من يرى هذا الجمال حينما يتنزه في الحديقة يمجد الله فيقول ?ما شاء الله ولا قوة إلا بالله?[الكهف:39]. ويتذكر أن الله قد سخر هذا الجمال لخدمة الإنسان وأنه سوف يمنح المؤمنين نعماً ممتازة لا تقارن في الآخرة فيزداد حبه لله تعالى.
هل تفكرت يوماً في نملة رأيتها خلال تنزهك في الحديقة؟
الناس بشكل عام لا يدركون أي معنى للتفكير في الكائنات الحية التي يرونها في محيطهم. ولا يتخيّلون ان هذه الكائنات الحية التي يصادفونها كل يوم لها ميزات مثيرة للاهتمام. أما بالنسبة للمؤمن فإن كل كائن حي خلقه الله يحمل آثار الكمال في خلقه، والنمل بعض هذه المخلوقات.
فالمؤمن الذي لا يعمي عينه عن النمل الذي يراه حين يتنزه في الحديقة يشهد الكمال في خلق الله من خلال رؤيته لميزاتها المدهشة.
فحتى مشاهدة تحركات النملة تستحث العقل فهي تحرك أرجلها المتناهية الدقة بأسلوب متتال منتظم إلى أبعد حد، فهي تعرف تمام المعرفة أي رجل يجب أن تقوم بالخطوة الأولى وأيها تقوم بالخطوة التالية، وتتحرك بسرعة دون ترنّح.
وهذه الحشرة الصغيرة ترفع فتاتاً أكبر بكثير من جسمها، وتحمله إلى وكرها بقلبها وروحها، وتسافر مسافات طويلة بالمقارنة مع جسمها الضئيل.
وبكل سهولة تستطيع أن تجد وكرها في الأرض التي لا معالم تميزها دون أن يكون هناك مرشد في خدمتها. ورغم أن مدخل الوكر صغير لدرجة لا نستطيع معها نحن أنفسنا أن نجده، لا تختلط عليها الأمورفتجده أينما كان.
عندما يرى الإنسان هذه النملات في الحديقة وهي مصطفة في خط الواحدة تلو الأخرى، تكدح بحماس لتحمل الطعام إلى وكرها لا يمكنه التوقف عن التساؤل عن طبيعة هذا التصميم على العمل بكد الذي تملكه هذه الحشرات الصغيرة جداً،.
ثم يدرك الإنسان أن النملة لا تحمل الطعام لنفسها فقط ولكن أيضاً لأعضاء أخر في المستعمرة، للملكة، ولصغار النمل.
وما يحتاج الإنسان أن يتفكر به هو كيف يمكن لهذه الحشرة الصغيرة جداً التي لا تمتلك دماغاً متطوراً أن تعرف الاجتهاد والنظام والتضحية بالنفس. وبعد التأمل ملياً بهذه الحقائق يصل الإنسان إلى الخلاصة التالية: النمل مثله مثل باقي الكائنات الحية تعمل بإلهام من الله، ولا تأتمر الا بأمره سبحانه وتعالى.
بماذا تجعلنا التحركات "المدركة" لنبتة اللبلاب نتفكر؟
والمؤمن عندما يتنزه في الحديقة، يتفكر أيضاً بنتة اللبلاب (نبتة متعرشة) التي يصادفها، وهي من أجمل ما خلق الله تعالى. فبالنسبة لمن يتفكر هناك دائماً آيات يتعلمها من كل شيء حي.
فعلى سبيل المثال، في لف نبتة اللبلاب نفسها حول غصن ما أو أي شيء، أمر يحتاج الإنسان للتفكر فيه بدقة. ولو أن مراحل نمو هذه النبتة صوّرت، ثم أعيد عرض الشريط بسرعة لرأينا أن هذه النبتة تتحرك كما لو أنها كائن مدرك. فكأنها ترى أن هناك غصناً أمامها فتمد نفسها باتجاهه وتوثقه إليه وكأنها تحكم الخناق حوله. وأحياناً تلتف حول الغصن عدة مرات لتثبت نفسها، ثم تنمو بسرعة بهذه الطريقة، وتنشيء لنفسها طريقاً جديداً أما بالعودة أو التقدم إلى الأسفل عندما يصل ممرها إلى نهايته.
والمؤمن الذي يشهد كل هذه الأمور يدرك مرة أخرى أن الله سبحانه وتعالى خلق كل الكائنات الحية بأنظمة فريدة خالية من الخلل.
وفيما يستمر المرء بمراقبة تحركات نبتة اللبلاب فإنه يشهد معلماً آخر مهماً من معالم هذه النبتة، حيث يرى أن هذه النبتة تلصق نفسها بإحكام بالسطح الذي تتموقع عليه عبر تمديد أذرع إلى جوانبه، كما تفرز هذه النبتة "غير المدركة" مادة دبقة قوية لدرجة قد تنزع الدهان عن الحائط إذا حاول الإنسان إزالتها.
وجود مثل هذه النبتة يظهر للمؤمن الذي يتفكر في هذه الأمور القدرة الكلية لله خالقها.
بماذا تجعلنا الأشجار نتفكر؟
نشاهد الأشجار في كل يوم وكل مكان، ولكن مع ذلك هل تفكرتم يوماً كيف يصل الماء إلى أبعد ورقة في أعلى غصن في الشجرة الباسقة؟
يمكننا أن نمتلك فهماً أفضل للطبيعة غير العادية لهذا الأمر عن طريق المقارنة. فمن المستحيل أن يرتفع الماء من الخزان الكائن في قبو المبنى الذي نسكن فيه، إلى الطوابق الأعلى دون محرك دفع مائي، أو غيره من المحركات القوية. إذ لا يمكن حتى ضخ المياه إلى الطابق الأول ، وهذا يعني أنه يجب أن يكون هناك نظام ضخ في الأشجار شبيه بمحرك الدفع المائي، وإلا إذا لم يستطيع الماء الوصول إلى جذع الشجرة وأغصانها فإن الشجرة تموت سريعاً. لقد خلق الله كل شجرة مزودة بكل المعدات الضرورية، وعلاوة على ذلك فإن نظام الدفع المائي في الكثير من الأشجار أرفع من أن يقارن بذلك الموجود في المباني التي نعيش فيها؛ وما ذكرناه واحد من الموضوعات التي يتفكر فيها من ينظر إلى كل الأشياء بعين البصيرة، عندما يشاهد النباتات.
وهناك موضوع آخر له علاقة بأوراق الأشجار. فمن يتفكر في الأشياء التي يشاهدها، لا يعتبر، حين ينظر إلى الأشجار، أوراقها أشكالاً عادية ألف مشاهدتها. فهو يتفكر في أمورمختلفة لا تخطر لمعظم الناس، فمثلاً، مع أن أوراق الأشجار رقيقة جداً، فإنها لا تجف بفعل الحر الشديد، ولو أن إنساناً بقي في الخارج ولو لوقت قصير في حرارة تبلغ أربعين درجة مئوية، فإن لو جلده يتغير، ويعاني من الجفاف، في حين تستطيع أوراق الأشجار أن تبقى خضراء لأيام وحتى شهور في الحر الشديد دون أن تحترق، على الرغم من ضآلة كميات المياه التي تجري في أوعيتها الشبيهة بالخيوط؛ وهذه معجزة في الخلق تبين أن الله خلق كل شيء بعلم منقطع النظير. وبالتفكر في معجزة الخلق هذه يرى المؤمن عظمة الله ويذكره سبحانه وتعالى.
خلال قراءة الجريدة أو مشاهدة التلفاز..
يتابع الناس الأخبار في الجريدة اليومية وعبر التلفاز أما خلال النهار أو حين يعودون إلى بيتهم في المساء. وفي هذه التقارير الكثير من القضايا التي يمكن أن يتفكر فيها الإنسان الحي الضمير ويأخذ حذره منها ويرى فيها آيات الله.
بماذا يجعلنا تكرر قضايا العنف والسرقة والجريمة نتفكر؟
في كل يوم على الصفحات المحلية للأخبار في الجرائد والنشرات الأخبارية، تطالعنا تقارير عديدة عن القتل والجرح، واللصوصية والسرقات والسلب والانتحار. وتكرر وقوع هذه الأحداث والعدد الكبير للأشخاص الميالين جداً إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم يشير إلى الضرر الذي يعاني منه الناس الذين لا يؤمنون بالله. فخطف شخص ما لطفل صغير من أجل الفدية مسبباً له خوفاً عظيماً، أو حتى قتله، وتصويب شخص أخر مسدساً في وجه رجل وقتله، دون تردد، وقبول ثالث الرشوة، أو القيام بسلب الأموال أو الانتحار.. كلها تشير إلى أن هؤلاء الأشخاص لا يخافون الله ولا يؤمنون بالآخرة. فمن يخاف الله ويعرف أنه سيحاسب في الآخرة لا يفعل هذه الأمور أبداً. كل هذه الأفعال عقوبتها في الآخرة نار جهنم إذا لم يتب عنها مرتبكها وإذا لم يسامحه الله ويرحمه.
وقد يقول أحدهم:"أنا ملحد لا أؤمن بالله ومع ذلك فأنا لا أقبل الرشوة". ولكن هذا التعبير من إنسان لا يؤمن بالله غير مقنع أبداً. فمن المحتمل جداً أن يخل هذا الشخص بوعده إذا تبدلت الظروف، فعلى سبيل المثال إذا اضطر هذا الإنسان إلى إيجاد المال لسبب طارئ، وصودف أن كان في وضع فيه فرصة للسرقة أو قبول الرشوة، فمن غير المتوقع أن يكون عند كلمته عندما تكون حياته على المحك. ومع أن هذا الشخص قد يتجنب قبض الرشوة في الظروف الصعبة، فإنه قد يميل إلى ارتكاب غيرها من المحظورات، أما المؤمن فلا يقوم بأي عمل لا يستطيع أن يتحمل عاقبته في الآخرة.
إذاً، فإن سبب هذه الأحداث التي تجعلنا من المعترضين بأصواتنا في الجرائد والتلفزيونات وفي حياتنا الاجتماعية، وتدفعنا إلى أن نصرخ بقوة: "ماذا حصل لهذا المجتمع" هو في الحقيقة، قلة التدين. والمؤمن الذي يرى هذه التقارير لا يعمي عينيه عنها بل يفكر بأن الحل الوحيد بالتحدث بدعوة الناس الى الدين، وإحياء قيمه.. ففي المجتمع الذي يتكون من أناس يخافون الله ويعلمون أنهم سيحاسبون في الآخرة من المستحيل لهذه الأحداث أن تقع بهذه الدرجة التي تقع فيها في أوقاتنا هذه. ففي مثل هذا المجتمع سوف يعيش الناس في أعلى درجات الأمن والسلام.
بماذا تجعلنا برامج النقاش التي تستمر حتىالصباح نتفكر؟
تشكل برامج النقاش التي تذاع على التلفاز مادة أخرى للتفكر فيها لمن يتابع التفكر في الأمور من حوله.
وبرامج النقاش هذه تستضيف الأشخاص الأكثر إلماماً بموضوع الساعة والأكثر علماً به. فيناقش هؤلاء موضوعاً ما لساعات من غير أن يكون أحد منهم قادراً على إيجاد حل أو الوصول إلى استنتاج ما، مع أن هؤلاء الذين يشاركون في هذه البرامج يعتبرون مؤهلين لحل هذه القضايا.
وبالفعل، فإن حلول معظم هذه القضايا واضح بما فيه الكفاية ومع ذلك فإن مصالح الناس الشخصية، وبقاؤهم تحت تأثير نفوذهم الحالي وسعيهم لإظهار انفسهم بدل البحث بإخلاص عن الحلول يوصلهم إلى مأزق وطريق مسدود.
والإنسان الحي الضمير الذي يشهد كل هذايجزم بأن سبب هذه الأحداث يكمن في بعد المجتمع عن دين الله، فمن يؤمن بالله لا يظهر منه أي تصرف أخرق، لا مسؤول أو فارغ. فهو يعلم أن هناك خيراً في كل حادث يعرّضه الله له، وأنه في امتحان دائم في هذه الحياة، وعليه أن يستخدم رشده وعلمه وقوته بطريقة ترضي الله.
بالإضافة إلى ذلك، عندما يشاهد المؤمن هذه البرامج يتذكر قوله تعالى: ?...وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلا?[الكهف:54].
ان وجود مثل هذه البرنامج يكشف عن طبيعة الناس المولعة بالجدل والخصام. وهذا ما يؤدي بهم في معظم الأوقات إلى الفشل في فهم المطلوب، فهوسهم بما سيقولون، ومحاولتهم قوله أولاً، ومقاطعتهم بعضهم بعضاً ورفعهم أصواتهم بسهولة وانفعالهم الشديد بلمحة، ومباشرتهم بكيل الشتائم لبعضهم، تكشف بوضوح الجوانب السلبية لذوي الثقافات الرفيعة ظاهرياً الذين ينقصهم الإيمان بالله.
بمشاركة أشخاص مخلصين وصادقين مائة بالمائة، ممن يخافون الله لا يمكن لهذه المناقشات المطولة وغير المثمرة أن تحدث،ف بما أن الهدف هو إيجاد الحلول الأكثر إرضاءً لله ومنفعة للناس، فإن أفضل أساليب التفكير وأكثرها ضميرية،توضع وتطبق دون تضييع الوقت، وبما أن ضمير الكل سوف يرتاح بالوصول إلى النتيجة النهائية فإن الخصام والجدل لن يقعا.
وإذا كان هناك لأي واحد اعتراض مبني على أسباب معقولة تظهر طريقة أفضل في الحل فإن اقتراحه يطبق مباشرة، وخلافاً لغيرهم، فإن من يؤمنون بالله لا يظهرون تصرفات عنيدة ومتعجرفة؟ وعندما يتذكرون قوله تعالى ?... وفوق كل ذي علم عليم?[يوسف:76]، يطبقون أفضل الخيارات التي يقدرون عليها.
هذه النقاشات التي تستمر حتى الصباح دون الوصول إلى أي حل تستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار لأنها تظهر ما يمكن أن يحدث في البيئات التي لا تعيش قيم وأخلاق الدين الرفيعة.
بماذا يجعلنا الفقر والمجاعة في كل زاوية من زوايا العالم نتفكر؟
عدم العدل بين الناس من القضايا التي تتداول باستمرار في وسائل الإعلام، ففيما هنالك في أحد جوانب العالم بلدان مزدهرة بشكل ملحوظ تتمتع بدرجات عالية من الرفاهية، هناك في الجانب المقابل أناس لا يجدون ما يأكلونه وليس لديهم دواء لعلاج حتى أبسط الأمراض و يتكرر وقوع الموت في صفوفهم بسبب الإهمال. أول ما يكشفه هذا الوضع هو النظام الجائر السائد في العالم. من السهل جداً على البلدان الغنية إنقاذ هؤلاء الناس، فعلى سبيل المثال، قرب الأمم التي تموت من الجوع في أفريقيا هناك مجتمعات كدست الثروات من مناجم الماس، وبالتالي أنشأت "مدنية" متقدمة. ورغم أنه من السهل جداً إعادة إسكان هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون في الفقر قريبين من المجاعة متروكين عرضة للموت ، أو تأمين الموارد التي تتوافق مع احتياجاتهم، في المناطق التي يعيشون فيه،ا فإنه لعقود من الزمن لم يتم البحث عن حلول أساسية لمشكلتهم؛ ومع أن مساعدتهم ليست مهمة يستطيع عدد قليل من الناس القيام بها، إلا أنه من أجل إيجاد حل نحتاج الى الكثير من التضحية بالنفس، وذلك فإن عدد الأشخاص الذين يمكن الادعاء بأنهم ينكبون على محاولة حل مثل هذه المشكلة قليل جداً.
تريليونات من الدولارات تبدد في كل جزء من العالم لأسباب مختلفة، حتى ان بعض الناس يرمون طعامهم لأن كمية الملح التي فيه لم تعجبهم، فيما يموت غيرهم لأنه غير قادر على إيجاد كمية كافية من الطعام ليأكلها وفي هذا دليل واضح ضد نظام عالمي جائر سببه عدم تطبيق قيم الدين على الأرض.
ومن يرى كل هذا يجزم بأن الشيء الوحيد الذي يزيل هذا الجور هو الالتزام بأوامر الله، فالناس الذين يخافون الله ويتصرفون بما تمليه عليهم ضمائرهم لا يمكن أن يسمحوا بمثل هذا الظلم والجور. وسوف يساعدون المعوزين بحلول محدودة وسريعة وطويلة الأمد، دون أن يسمحوا بأي نوع من أنواع التفاخر، وإذا اقتضت الضرورة يستثمرون جميع الإمكانيات الموجودة في العالم.
ويخبرنا الله في القرآن الكريم أن مساعدة الفقراء والمعوزين هي من صفات الأشخاص الذين يخافون الله واليوم الآخر ?ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا?[الإنسان:8-10]. وعدم إطعام الفقراء من صفات الأشخاص الكافرين الذين لا يخافون الله ?خذوه فغلّوه. ثم الجحيم صلّوه. ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه. إنه كان لا يؤمن بالله العظيم. ولا يحض على طعام المسكين. فليس له اليوم هاهنا حميم. ولا طعام إلا من غسلين. لا يأكله إلا الخاطئون?[الحاقة:30-37].
بماذا تجعلنا الكوارث التي تحدث حول العالم نتفكر؟
بعض التقارير التي يصادفها الناس باستمرار في الجرائد والتلفزيونات تتعلق بالكوارث، فالناس قد يتعرضون للكوارث في أي وقت. فقد تحدث هزة أرضية قوية، وقد يشب حريق وقد يحدث فيضان، ومن يرى هذه التقارير يتذكر أن الله قادر على كل شيء فباستطاعته أن يسوي مدينة ما بالأرض إذا أراد، وبالتفكر في هذا الأمر يدرك الإنسان أنه لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا مغيث إلا هو، فحتى أقوى المباني والمدن المجهزة بأحدث وسائل التكنلوجيا لا تستطيع أن تقف في وجه قوة الله فهي الأخرى قد تفنى في لحظات.
وكل هذه المشاهد هي من أجل أن يتفكر فيها الإنسان ويعتبر، ومن يسمع تقارير الكوارث يفكر أيضاً بأن الله قد أنزل الكارثة على مدينة ما لسبب معين. ففي القرآن الكريم يذكر الله تبارك وتعالى أنه ينزل العقاب بالأمم العاصية تنبيهاً لهم أو جزاءً على أفعالهم، ومن ثم فإن سبب حدوث الكوارث إما أن يكون تطبيق مجتمع ما لقيم تغضب الله، فيعاقبهم على ذلك أو امتحاناً للناس ببعض الشدة في هذه الدنيا.
وبالتفكر في هذه الإمكانيات يخاف المؤمن أن تقع به هذه الكوارث فيستغفر الله سبحانه وتعالى على أعماله.
لا يمكن لأي شخص أو أمة أن تتفادى وقوع أي كارثة إلا إذا أراد الله. ولا فرق في ذلك بين أغنى وأقوى المدن وأي مكان آخر عادي يعتبر قليل المخاطر بسبب موقعه الجغرافي، فالله تعالى يقول انه ليس هناك أمة تستطيع تفادي الكارثة عندما تحل بها.
?أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أ وأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحىً وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون? [الأعراف:97-100]
موضوع آخر يتداول به باستمرار في الأنباء هو التراجع الاقتصادي؛ وتحديداً هناك عدد من المواد الاخبارية السلبية تنشر عن الربا يومياً. ومن يقرأ هذه التقارير التي تذكر أن الربا أصبح خارجاً عن السيطرة وسبباً للنكماش الاقتصادي يدرك أن الله يضعف أرباح الناس جزاء على تبني مثل هذا الصنيع المحرّم والبغيض_اي الربا. وكما تذكر الآية الكريمة:? يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كلّ خوّان أثيم? ] البقرة:276[ فإن الله سبحانه وتعالى يزيل الأرباح المحققة عن طريق الربا ويقلل الانتاجية. هذه الحقائق مذكورة أيضاً في آية أخرى على الشكل التالي:? وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون?] الروم:39[.
ومن يتفكر في هذه التقارير يرى فيها هي أيضاً مثالاً على ما تبينه آيات القرآن الكريم للناس.
التفكر في الأماكن الجميلة
ومن الممكن أيضاً أن نرى في البرامج التلفزيونية وفي المجلات والصحف الجمال الذي خلقه الله ونتفكّر فيه. فمشاهدة أو زيارة مكان ذي منظر خلاب مثل بيت جميل أو حديقة أو شاطىء بحري يمتع الجميع بالتأكيد. فقبل كل شيء هذه المشاهد تذكرنا بالجنة، ومن خلال مشاهدتها يتذكر المؤمن مرة أخرى أن الله الذي ينعم علينا بهذه النعم ويرينا هذا الجمال الباهر سوف يخلق في أماكن لا تضاهى جمالاً في الجنة.
ومن يرى هذه المشاهد يتفكّر بالتالي أيضاً: كل جمال خلق في هذه الحياة الدنيا فيه العديد من النقائص والعيوب لأن الحياة الدنيا دار اختبار. ومن يمضي بعض الوقت في أحد المنتجعات التي كان قد شاهدها قبل ذلك في التلفاز يلاحظ هذه العيوب. فشدة رطوبة الطقس وملوحة مياه البحر المزعجة والحر المحرق والبعوض أمثلة على ذلك. بالإضافة الى ذلك فإن الكثير من الصعوبات الدنيوية قد تحدث مثل حروق الشمس، مشاكل وكالة السفر التنظيمية، والطبيعة العصبية للأشخاص الذين يشاركهم المكان.
أما في الجنة فإن منابع كل هذا الجمال ستكون هناك. ولن يكون هناك أي شيء مزعج، ولن ينعقد أي حديث غير مرضٍ. ففي كل جمال يقابله المؤمن في هذه الحياة الدنيا يزداد توقه الى الجنة، ويشكر الله دائماً على نعمه التي أنعمها عليه في هذه الحياة، ويستمتع بالتفكير بأن منابع هذه الأمور الجميلة توجد في الجنة، ولا ينسى هذا أبداً بالانجراف بمفاتن الحياة الدنيا، فيعيش حياته بالطرق التي تنتهي به الى امتلاك الجمال الأبدي، وتجعله أهلاً لدخول الجنة.
بماذا نتفكّر عندما نقرأ في المجلات العلمية أن حجر بناء المادة هو الذرة؟
ما لم يتفكر الانسان بالأشياء التي يعرفها، فإنه لن يستطيع أن يدرك دقائقها، ولا أن يفهم ماهية هذا المحيط الاستثنائي الذي يعيش فيه.
ولهذا الاعتبار فإن المؤمن يتفكر باستمرار في الأحداث والكائنات الحية التي خلقها الله، ومع أن هذه الأمور قد تكون معروفة لدى الكثير من الناس، إلا أن المؤمن من خلال تفكّره فيها يكون قادراً على استخلاص نتائج مختلفة عما يصل اليه الآخرون.
فعلى سبيل المثال من المعروف حيداً أن المكوّن الأساس لكل ما في الكون من كائنات حية وجماد هو الذرّة. فكل الناس يعلمون أن الكتاب الذي يقرأون فيه والكنبة التي يجلسون عليها والماء الذي يشسربونه وكل الأشياء التي يرونها حولهم مكوّنة من ذرّات. ولكن فقط ذوي الضمائر الحيّة يفكرون أبعد من ذلك ويشهدون على قوة الله العظيمة.
فعندما يرى مثل هؤلاء الأشخاص تقارير حول هذا الموضوع يفكرون بالتالي: الذرات مخلوقات جامدة فكيف يمكن لمادة جامدة أن تتجمع لتكوّن إنساناً متحركاً قادراً على الرؤية والسمع وتفسير ما يسمعه والاستمتاع بالموسيقى التي يسمعها والتفكير واتخاذ القرارات، والحزن والفرح؟ وكيف يقدر الانسان على اكتساب مثل هذه السمات التي تميّزه عن غيره مما يتكوّن من الذرات؟
بالتأكيد ان الذرات الجامدة غير المدركة لا يمكن أن تعطي الانسان هذه الخصائص. فمن الواضح أن الله هو الذي خلق الانسان بروح قد وهبت كل هذه الخصائص، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى:? الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. ثم سوّاه فنفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون?]السجدة:7-9[
بعض الحقائق التي يصل إليها الإنسان عبر التفكر العميق
هل تفكرت يوماً في كون كل شيء مسخّر للإنسان وحده؟
عندما يبحث المؤمن في كل ما في الكون من أنظمة وكل ما فيه من كائنات حيّة وجماد بعينٍ يقظة، يرى أنها كلها مسخّرة للإنسان، ويفهم أنه ليس في الوجود شيء جاء بمحض الصدفة، بل خلق الله كل شيء بإتقان لخدمة الإنسان.
فمثلاً يتنفس الإنسان كل الوقت دون بذل جهد، فالهواء الذي يستنشقه لا يحرق مجرى تنفسه ولا يصيبه الدوار ولا يسبب له أوجاعاً في الرأس، فنسب الغازات في الهواء ملائمة لجسم الإنسان. ومن يتفكر في هذه الأمور يتذكر نقطة أخرى هامة جداً، فلو كان تركز الأوكسيجين في الهواء أكثر قليلاً أو أقل قليلاً فما هو عليه لاختفت الحياة ف
رد: فن التامل
شكراا لك مديرنا الغالي ... أنا قرأت مثل هذا الموضوع بالضبط .. في كتاب اسمه فن التامل لكاته يحيى ... من المكتبة ...
محمد- عضو مميز جدا
-
120 5425
2
03/03/1996
15/05/2010
28
الإمارات العربية المتحدة
طالب
سعيد
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى